الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٤:٢٩ مساءً

"ظلوا صامدين .. ما تركعوش"

سعدية مفرح
الخميس ، ١٩ فبراير ٢٠١٥ الساعة ٠٢:٠٠ مساءً
"كانت الدنيا برد". هكذا وصفت الطفلة الفلسطينية، ملاك الخطيب، معتقلها الذي مكثت فيه 45 يوماً، قبل أن تفرج عنها سلطات الاحتلال الإسرائيلية، أخيراً، بعد انقضاء مدة محكوميتها.

نزلت ملاك من السيارة الإسرائيلية التي حملتها من السجن، كما شاهدنا في مقطع فيديو صور لحظات الإفراج عنها، وخطت بخفة ورشاقة وابتسامة غائمة، وهي تحمل في يدها كيساً صغيراً. تقدمت ملاك من دون أن تلتفت إلى الوراء في اتجاه مستقبليها ومستقبلها أيضاً.. نحو فلسطين. كانت عائلتها، وبعض من أصدقائها والمسؤولون الفلسطينيون والإعلاميون، ينتظرونها عند حاجز جبارة العسكري قرب طولكرم، ويراقبون خطواتها السريعة على مدى الأمتار واللحظات القليلة التي تفصلهم عنها بقلق واضح، ربما لأنهم ما زالوا غير مصدقين أن إسرائيل ستفرج عنها، أخيراً، كما أخبرتهم، فلا أحد يصدق إسرائيل.

بدت ملاك، في تلك اللحظات، ملاكاً حقيقياً يمشي على الأرض، بخطوات أقرب إلى القفزات، لكنها لم تكن كذلك، ففي خطوات ملاك القصيرة، بين سيارة السجن والحاجز الذي وقف عنده مستقبلوها، تاريخ فلسطيني طويل محمل بالأسى والجبروت، أيضاً، تشارك في حمله، وتحمل كل الفلسطينيين، صغاراً وكباراً، في داخل فلسطين وخارجها.
لم يكن البرد الذي شعرت به أصغر أسيرة فلسطينية في سجون الصهاينة أقسى ما واجهته طوال فترة اعتقالها وأسرها، فقد تحدثت كثيراً، بعد ذلك، عن الإهانة والضرب والتهديد، بواسطة الكلاب المجوعة، والقسوة والضغط النفسي والجوع، وغيرها من أساليب لم تردع طفولة ملاك إسرائيل من استخدامها ضدها، كما استخدمتها، دائماً، مع غيرها من الأسرى والأسيرات الكبار في السن. لكن البرد وحده بقي عالقاً في قلب ملاك، كما يبدو، بعد أن غادر أطرافها، وسط دفء عائلتها الصغيرة.

كانت تتكلم بعد لحظات من الإفراج عنها، بثبات لافت لنظر من لا يعرف السيكولوجية الفلسطينية جيداً، أما ملاك ففلسطينية بامتياز، فقد بدت ثابتة، وكأنها تدربت طويلاً على ما يمكن أن تصرح به للصحافة، لحظة الإفراج عنها، على الرغم من أنها اختطفت بعد خروجها من مدرستها اختطافاً، بتهمة إلقاء الحجارة على جنود الصهاينة، وحوكمت بهذه التهمة لاحقاً.

عندما اقتربت الكاميرا من وجه "الملاك الصغير"، وهي تضع الكوفية الفلسطينية التي قدمها لها أحد مستقبليها على كتفيها، بدت لي وكأنها أكبر من سنوات عمرها الأربع عشرة بكثير، فقد أحاطت الدوائر السوداء بعينيها الجميلتين، الغارقتين في حزن قديم، وارتسمت خطوط رفيعة على جبهتها كتجاعيد مبكرة جداً، وشحبت بشرتها الرقيقة، لكنها احتفظت برباطة جأش، تمكنت عبرها من مواجهة الجميع بابتسامة واثقة ومطمئنة، على الرغم من كل شيء. لا بد أن تلك التجربة المريرة التي مرت بها ملاك قد تركت آثارها، وأنها غيّرتها إلى الأبد، كما صرحت، لاحقاً، قبل أن تستدرك: "أصلاً أنا تغيّرت منذ حرب غزة، عندما كنت أشاهد قتل الأطفال، عرفت ماذا يعني الاحتلال، وأنه لن يتغير يوماً".

نعم.. الاحتلال هو الاحتلال، وإسرائيل هي إسرائيل، ولن تنجح كل مساحيق التجميل التي تستخدمها، بمساعدة أصدقائها في تجميل وجهها البشع، وملاك التي خرجت من المعتقل تاركة وراءها 220 طفلاً فلسطينياً يقبعون في سجون الاحتلال الصهيوني، تقدم شهادة عملية وواقعية جديدة في ملف انتهاكات إسرائيل الكثيرة والمستمرة لكل قوانين الدين والدنيا، من دون رادع من المجتمع الدولي. ومن حسن الحظ أن الطفلة الصغيرة تعرف، كما يعرف أبناء جيلها من الفلسطينيين ذلك، ولهذا، لم ولن يعولوا على هذا المجتمع الدولي في مساعدتهم على تحرير بلادهم، بقدر ما يعولون على أنفسهم فقط.

"بدنا نتحمل لأننا فلسطينيون"، قالت ملاك للصحفي الذي مد إليها الميكرفون يسألها عن شعورها، وأضافت "وصيتي للمعتقلين: ظلوا صامدين .. ما تركعوش"!

تعرف عدوها جيداً هذه الصغيرة، وتهدده باللغة التي يفهمها، والمفردات التي يخشاها؛ الصمود وعدم الركوع.

"العربي الجديد"