الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٦:٣٠ مساءً

صباح بضفائر بنات المظفر

جمال أنعم
الجمعة ، ١٨ نوفمبر ٢٠١١ الساعة ٠٩:٤٠ صباحاً
كل ثورة تتقدمها الشهيدات , منتصرة لا محالة , وفادياتنا حفيدات الشهيدة الأم سمية أولى الثائرات , أم عمار زوج ياسر , الشهيد الكبير الشاهد على كبرياء روح اليمن منذ البواكير ,هي أسرتنا الرائدة , في درب الفداء , ونحن بنوها الأوفياء .

أي إمرأةٍ أنتِ أيتها الحبيبة , أتشبث بإهابك كلما أرتجف القلب , و سرت فيه رعدة جبن , أرنو إلى هامتكِ العالية ,فتنبت لي أجنحة تطير بي نحو السماوات .

كيف نسام أو نوسم بالخوف والخور وأمنا سمية ؟ معلمتنا معنى السمو والإرتفاع , ما زلتِ واقفة ملء القلب والدرب , تضيئين الطريق إلى العظمة , لا أقرب منكِ إلي ولا أحب من أبائي جوارك رفقة الألم والإصطبار ,الأباء المؤسسين, فرسان المستهل , جسر العبور الأول , حملة النور , وروافع البناء , ندين لهم بنعمة الأبد , ونوالي شكرهم بغير إنقطاع , نحن نحيا في قلب السر الكبير الذي حموه وأفتدوه , نحيا في المعنى الكريم الذي ضحوا من أجله .

هو ذا الحبيب المصطفى يلتحف بردته وأشجان الغربة, هو ذا في ظل الكعبة , يستصرخه خباب , لكن عن أي عذاب يحكي خباب ؟

ما كان جواب المختار , إلا قطعاً بالمنشار , كانت لحظة فاصلة , وكان المنشار إجابة قاطعة , تفصل بين زمنين , تفصل بين الشك واليقين , بين العتمة والنور , بين خيارين , بين أن تكون أولا تكون , بين أن تتحمل كلفة الحرية كاملة , أو تبقى أسير عبوديتك , لاح الوصف الصادم لمثال التضحية المستحقة جزءاً من الدرس , قطعاً للضعف والوهن , إعلاءً من شأن الروح وتهويناً من جراحات البدن , درس النبوة من قديم , خوض الإمتحان حتى منتهاه , الإنقذاف في قلب النار , على برد راسخٍ من يقين النجاة .

كانوا قلة من مهمشي مكة مدينة السطوة والجبروت , أراد بهم الله كسر النسق المهيمن في تصور القوة والمنعة ونسف كل المواضعات القديمة المحددة للكينونة والمكانة , خباب , صهيب الرومي , بلال , ياسر القادم من اليمن وزوجه سمية إمرأة من موالي بني مخزوم , وعمار الإبن , هؤلاء البسطاء الأحرار الخارجون للتو من بيئة القهر والإستلاب , حديثي إيمان , عراة , لا قبيلة تحامي عنهم , ولا أسباب تدفع عنهم البطش والتنكيل .

كان المسلم يعلن عن نفسه , إنساناً جديداً طالعاً من خارج السياقات السائدة , إنسان القيمة , المؤمن المتعالي , الحر المتأبي على الخضوع للأصنام والأوهام والإستسلام لغير الله , بدت مواجهة غير متكافئة هم فيها الحلقة الأضعف .

أستعيد صورة هؤلاء في وجه العالم كله لا قريش وحدها , موقف يبعث على الرهبة , يبدو جنونياً غير قابل للتصديق , ثورة مستحيلة ضد مواريث جاهلية حاكمة شديدة الصرامة والبأس , ثورة ضد سلطة صنمية مركبة , ومن مجموعة خرجت فجأة من الهامش غير المنظور , ومن أقصى الفكر والتصور , متحدية , معلنة إيمانها بالله , كافرة بكل ما يعبد من دونه , مغيرة معادلات القوة , فارضة معايير إعتقادية وقيمية وأخلاقية جديدة , تتحدد على أساسها الهوية ويتأكد الوجود .

ولتكون هذه العصبة هي النواة الصلبة , كان لا بد من أن يخوضوا تجربة الإنصهار الأولى حتى النخاع , كان لا بد أن يجتازوا الرهان , وأن يعلنوا عن حريتهم بالإستعداد المطلق لدفع ثمن إختيارهم مهما بدا باهظاً وموجعاً ومكلفاً .

إستنجاد خباب لحظة تعب وضعف إنسانية , وبالنظر لحداثة التجربة يبدو الإشفاق متطلباً بإلحاح لكنها اللحظة الفارقة , والتي يمتد فيها النظر والشعور النبوي صوب البعيد , هنا تسلك النبوة منهاجها في التربية , هنا " المحبة العظمى تتعالى على إشفاقها " بحسب الفيلسوف" نتشيه " , لا هدهدة ولا تربيت , الإشفاق قد يكون محض إهانة , قتلاً حانياً للروح ,نشفق على أنفسنا فنقطعها عن معالي الأمور , نشفق على أطفالنا , نخاف عليهم أن يكابدوا أو يعانوا أو يواجهوا ما يشق عليهم فنورثهم الخوف , ونسلمهم إلى حياة الرخاوة والتكسر ونتسبب لهم بإعاقات نفسية ملازمة , حمل بلال صخرته ببسالة ,حتى تكسرت على رأس السادة المعذبين , وعلى تلك الصدور العارية إنهارت قريش بكل صلفها وغرورها وخيلائها , تهاوت كل الأصنام , سقطت الخرافة الزائفة .

كانت البداية نضالاً سلمياً , إعتمد القوى اللينة سلاحاً في المواجهة , الإيمان , الثقة , الصبر , التضحية , والجسارة , نبالة الغاية , عدالة القضية , كل ذلك تحول إلى طاقة جبارة هزمت قريش بكل جبروتها وطغيانها , وفي صدارة هذا المشهد الفدائي المهيب كانت سمية سيدة الأحرار , قامة فارعة , شهاباً صاعداً نحو السماء , تتقزم دونها سادات الكفر ويتلوى تحت قدميها كبرياء قريش الجريح , لتجيء الطعنة بقدر الشعور بالإهانة والإنجراح .

شهيدات تعز الغالية عزيزة , زينب , تفاحة , ياسمين , والأخريات الباسلات , هو ذا الصنم المحروق يهوي تحت أقدامكن العالية , هو ذا يسقط مهاناً ممرغاً بالعار , تلعنه الأرض وتمقته السماء .

شموسنا أنتن, و كل النساء , وكل الرجال , وكل السعيدة .

هو ذا صباحنا الضافر يلوح بضفائر بنات المظفر .