السبت ، ٢٠ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١٢:٣٠ مساءً

لماذا أكتب؟ ما الذي أريده وأتمناه؟

إحسان الفقيه
الثلاثاء ، ١٤ ابريل ٢٠١٥ الساعة ١٠:٤٠ صباحاً
تسألونني، عن الذي أريد وأتمنى!

وتكررون:

لماذا تكتبين عن الإسلام بتلك الطريقة؟

ولماذا تدافعين عن بعض التيارات الإسلامية بتلك الشراسة؟

وماذا تريدين بما تكتبين أن تُحقّقينَ؟

يا قَوْم،

الكتابة ليست أطواقًا من اللؤلؤ ولا مهرجانًا من الياسمين بل هي الطريق الأقصر للتعاسة الخالصة كما وصفها حنا مينة حين قال: “أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين”.

فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذّته القصوى وهو ذات شعور المجاهد الذي يقاتل عن عقيدة في الميدان.

عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداءً لحياة الآخرين،

أولئك الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهًا،

لكنك تؤمن في أعماقك: (أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل).

جدير بأن يُضحّى في سبيله ليس بالبهجة وحسب بل بالمُفاداة حتى الموت معها أيضًا.

قال سيد قطب طيب الله ذكره ومقامه: “إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئًا كثيرًا، ولكن بشرط واحد: أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم. أن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم. أن يقولوا ما يعتقدون أنه الحق و يقدموا دماءهم فداءً لكلمة الحق. إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثًا هامدة حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء”.

الكتابة عن الإسلام والمسلمين أو عن أيّ قضية وطنية دينية أخلاقية فكرية إنسانية ليست رغبة ولم تكُن يومًا بدافع تحقيق مُتعة، إنّما “مسؤولية”، بل مسؤوليتين:

*الأولى: أن الله أعانني فعرفت ما عرفت من الحق فكان لِزامًا علي أن أُبّلغه لأن نعمة الهداية لهذا الحق عليها ضريبة لا مناصّ من أدائها والضريبة إبلاغها.

-قال شيخي الشعراوي رحمه الله: “حين نتكلم عن الرزق يظن كثير من الناس أن الرزق هو المال، نقول له لا، الرزق هو ما يُنتفع به فالقوة رزق والعلم رزق والحكمة رزق والتواضع رزق”.

ويقول أيضًا: “إن كان عندك علم أنفقه لتُعلّم الجاهل”. وهكذا نرى: “وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ”، تستوعب جميع حركة الحياة.

*الثانية: أنني قد أُوتيت ملكة الكتابة وذلك فضل رباني ونعمة إلهية لا بد أن أشكرها والشكر هو بأن أوظفها في دفع تلك الضريبة وأوصل بها ما عرفتُ من الحق وأجتهد ما استطعت في تبليغ هذا الحق، ولو لم تُعجب طريقتي أكثركم فلا زلتُ أُحاول وأبحث وأجتهد ونسأل الله القبول والإخلاص في العمل.

-أنا كمسلمة، حين أكون أمام أوامر الله فليس لي خيار، “وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم”، لقد قَبِلت نفسي طواعية وبرغبة ومتعة أن تلتزم بمنهج كامل تُذعن له بفكرها وعقلها وقلبها وروحها، فلا تحب ولا تتمنى ولا تريد ولا تسعى إلا تبعًا لهذا المنهج النبوي العظيم.

بكتابتي أُذكر الأمة “ومن حقّي بل وواجب عليّ أن أفعل” أُذكّرها بهويتها وانتمائها التي لا يوازيها ولا يساويها أي انتماء، أذكرها بأنها على الحق المُطلق اليقيني الذي يقف مقابل كل رُكام الباطل، أذكرها بأنها الأعزّ والأعلى حتى لوكانت ضعيفة عسكريًا وسياسيًا ومتخلفة تقنيًا وإداريًا.

*بكتابتي أُذكر الأمة أن من واجبها أن ترفع راية الدين وتجعل كلمة الله هي العليا بالقلب واللسان واليد، بالفكرة والكلمة والسيف. آحادًا وجماعات ودول وأن لا يقرّ لأبناء أمّتي قرار حتى يتحقق هذا الأمر ويُمكّن دين الله في الأرض.

*بكتابتي أذكر الأمة أن من لا يستطيع المساهمة بنفسه فلا أقل من أن يُحب ويُوالي ويُجلّ ويُقدّر من بادر وضحى وتقدم بلسانه أو بيده أو بنفسه أو بماله، وأن تحتمل منهم الزلل والاجتهاد الخاطيء وتغفره لهم في بحر حسناتهم العظيمة.

*بكتابتي أُذكر الأمة أن العدو قوي وخبير ومُتمكن ويُحسن المكر والخديعة، فلا تنتظر نصرًا سريعًا ولا عملًا سهلًا ولا تستبعد الوقوع في حبائل المكر وشبكات الخديعة، وأن الدرب صعب والمهمة شاقة.

*بكتابتي أُذكّر الأمة أن تتدرب على المناعة من المنافقين الذين لهم التمكين وتحت يدهم الإعلام والمال والسلطة ممن أتقنوا التلاعب بالدين وتضليل المسلمين حتى كاد الحق أن يكون باطلًا والباطل أن يكون حقًا.

*بكتابتي أذكر الأمة أن ميزانها للحق والصواب هنا فيما قال الله وقال الرسول، عليه الصلاة وأتمّ التسليم، في الكتاب والسنة وليس في مصطلحات الإعلام وتحريف شيوخ السلاطين وتحسينات المنحرفين.

أُذكّرهم بأن أمر الله ورسوله إنما جاء ليكون مقدّمًا على أي أمر وناسخًا لأي توجيه.

*بكتابتي أُذكر الأمة أن الدين قد يستوعب التقصير في أداء بعض الواجبات -وأنا أوّل المُقصّرين المُسغفرين- بل وقد يتسامح مع من يأتي بعض المحرمات ويقرّ بالذنب ويستغفر لكن لا يمكن أن يقبل بالتساهل في الأصول ولا الارتخاء في المنهج ولا التهاون في التسليم بحكم الله ورسوله.

فإن ذكّرت الأمة بكل ذلك فقد حققت ما أريد.

*هذا بعض ما أريد فماذا أتمنى؟

-هي أمنية لأُمتي وأمنية لنفسي،

*لأمتي أتمنى أن تكون أمة واحدة بحُكم إسلامي واحد، بنظام سياسي واقتصادي واجتماعي وعلى منهاج النبوة.

*ولنفسي أسأل الله أن يثبتني على الحق و”يعيشني عيشة السعداء ويُميتني ميتة الشهداء”.

*ملاحظة:

هناك سؤال آخر قد يتبادر إلى أذهان بعضكم ولطالما سُئلت عنه وأجبت وسأختصره ما استطعت.

السؤال يقول:

وهل يحتاج الإسلام إلى عاصية مثل إحسان لتدافع عنه؟

-هذا السؤال الفاسد في أصله مبنيّ على فرضية أن سائله نقي من الذنوب وهو يحوي في داخله ذنب كبير.

*كم هو مسكين من يعتقد أو يظنّ أن الإسلام بحاجة إلى عابد أو عالم ليدافع عنه فضلًا عن عاص!

*الإسلام لايحتاج لا لي ولا لك ولا لأيّ من الكائنات على هذا الكوكب،

لأنه منتصر بنا أو بغيرنا،

“وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لايكونوا أمثالكم”،

والغلبة له ولمن جعله منهاج حياة يسير عليه.

ومن هنا أتساءل:

*لماذا لم تقل زوجة سعد بن أبي وقاص في معركة القادسية للصحابي الجليل أبي محجن الثقفي وهو في أغلاله محبوسًا لشربه للخمر،

لماذا لم تقل له:

الإسلام لايحتاجك وأنت عاصٍ تشرب الخمر؟

وقد كان يسألها ويتوسّل إليها:

كفى حزنًا أن تدخل الخيل بالقنى، وأُترك مشدودًا علي وثاقيا

إذا قمت عناني الحديد وغلقت، مصاريع دوني تصم المناديا

يُقَطِّع قلبي حسرةً أن أرى الوغى، ولا سامعٌ صوتي ولا من يَرَانيا

وأن أشهدَ الإسلام يدعو مُغَوِّثاً، فلا أُنجدَ الإسلام حينَ دعانيا

سُلَيْمى دعيني أروِ سيفي من العدا، فسيفي أضحى ويحه اليوم صادياً

دعيني أَجُلْ في ساحةِ الحربِ جَوْلَةً، تفرج من همي وتشفي فؤاديا!

*لقد كان أبو محجن يتلوى ألمًا وهو يرى الرقاب تتطاير

ومعسكر الإسلام أمام معسكر الكفر وجهًا لوجه وفي نفس الوقت هو محبوس لايستطيع أن يُقدم للإسلام شيئًا وهو مذنب!

لماذا لم يحبسه ذنبه ويبقى صامتًا محمي الجناب؟

لماذا يخاطر بحياته وهو مذنب؟

حين يصبح الإسلام في خطر يجب ألا تُكبّل أقدامنا الذنوب، وهكذا فعل أبو المحجن، أعطى زوجة سعد بن أبي وقاص وعدًا ليعودن إلى القيد بعد المعركة ليستوفي عقابه ففكت قيده وأعطته البلقاء فرس زوجها سعد، وقد كان خال رسول الله عليه الصلاة والسلام مقروحًا في فخذيه فلم ينزل ساحة القتال، وحين اطلع أبو محجن في المعركة يجزّ رأس هذا ويضرب عنق آخر، كان سعد يراقب المشهد عن بعد ويقول:

الضرب ضرب أبي محجن والكر كرّ البلقاء!

وحين انتصر المسلمون في المعركة، أوفى أبو محجن بوعده، وعلم سعد بالقصة فعفى عنه إثر الخدمة الجليلة التي قدمها: “والله لا جلدتك في الخمر أبدًا”، فقال أبو محجن: “وأنا والله لا شربت الخمر أبدًا”.

*فيا لعظمة من عفا لتقدير ويا لرفعة من تاب لتقدير مثله!

*أنا لم أشرب خمرًا طيلة حياتي وهو فضل من ربي.

ولست أبا محجن ولا معي البلقاء ولست أنت بأحرص على الإسلام من سعد بن أبي وقاص وزوجته، وياليتني كنتُ على زمان أولئك العظماء وما عرفتُ أكثركم لا في أوّل زماني ولا في حاضره.

وصدق سارترحين قال: الآخرون هم الجحيم.

** ** **

كانت تطير حكاياتنا من مضافة إلى مضافة، والمضافات في بلدي هي المجالس التي يجتمع فيها رجالات العشيرة للتباحث في شؤون أبناء العشيرة أو للتشاوُر حول أمر طارئ أو للتحضير لجاهة أو عطوة أو مصالحة أو لغزو بيت مسؤول كبير للتوسّط في أمر ما “كفتح شارع، كإعادة فارٍّ من الجيش إلى كتيبته، كتوظيف عاطل عن العمل في مؤسسات “بيعت فيما بعد”، أو لنقل مُعلّم من قرية في الجنوب إلى الشمال كي يرىَ عروسه كلّ يوم)، أو لتحقيق مصلحة من أي نوع.

*كانت تلك المضافات المتسربلة جدرانها بصور “الأبيض والأسود والسيوف والملوك والمسابح والبواكير والتيجان والخرابيش المخفية بالشيد المغشوش” كانت غارقة بالتناقض حدّ الوجع مكتظّة بالهزائم حدّ الفجيعة، مُتسربلة بالخيبة حدّ النحيب ومسكونة ببقايا أملٍ كان يملأ عيون من دخلوا المساجد فسكنتهم “آيات تُتلى وقصص تُروى” عن سيرة الخالدين من عظماء أُمّتنا من بعض شبابٍ كانت الصلاة عندهم عبادة خالصة، لا مجرد رياء.

*كانت تلك المضافات كما “المدارس” إلا أنّها أنتجت جيلًا غريبًا في نشأته وتكوينه، ولا أُعمّم.

-نبتت في أوانيها بذور الولاء المُطلق فأورثت العمى في التأييد والفرح بالانبطاح والتباهي بالخضوع على مقربة من أحواض النعناع وشجر الليمون وأُصص نباتاتٍ كانت توقد الأنوف أشذاء مُضاعفة بذكر عظماء كانوا يُذكرون في تلك المجالس “بحماسة” فننتشي طربًا حدّ أننا كنا نكاد نسمع سنابك خيول فرسانهم حين كان الفرز واضحًا:

هذا وطني وذاك مُدّعٍ وتلك صفات الخائنين، حين كان الشهداء يتوافدون إلى ضمائرنا فينفجر بركان في الروح.

*حين كنّا نتحدّث عن الجهاد بحماسة فتُنتج الجيم جبالا من القامات الممشوقة وتنحني الدال من فوق المنابر تسحب “هاء” كلمة التوحيد إلى أرض المعركة!

حين كان الوطن وطنًا بكل ما في الكلمة من صهيل، قبل أن تتفتّق قريحة الوطن عن أفواج جديدة من السماسرة وتُجّار الدين و مُدّعي الفكر والشرف على رأي الكاتب محمد طُمّليه رحمه الله.

*في تلك المضافات التي عرفتُها وأعرفها وُلد الترنّح، كبُرت أنصاف المواقف عن استحقاق مشوّه، وعرف الناس كيف ينالون حصّتهم من التبعية كاملة.

*ونعم حظيتُ بحياة عادلة رغم كلّ الظلم لكنها كانت مجنونة وغير عادية ونعم حصلتُ على أشياء لطالما قاتلتُ من أجلها وقد انتزعتُها انتزاعًا.

وأعترف: لا أحد في عائلتي من المُقرّبين لي قد حظي بما حظيتُ أنا من أنواء وأرزاء وأعباء وأعداء، ومع أني ورثت عن جدّي نزقه وعنفوانه، وعن أبي عزّة نفسه ودوام التفكير وطول التأمّل، وعن جدّتي العفّة وهجر مجالس النساء، إلا إنني خُضتّ حروبًا ـ غير متكافئةـ ولطالما شعرتُ بنشوة النصر ولو كانت النتيجة “صفرًا” أو عددًا هائلًا من الكدمات وكسر مُضاعف بالعظم.

*ليس من الضروري أن يُنتج المختار مختارًا فلطالما ورث ابن المختار عن أبيه أسوأ ما فيه، ولكلّ طحينٍ نخالة ولستُ أنا نخالة قومي ولن أكون، بل كنتُ أشجعُهم وذلك فضل من ربّي، وفي ذلك فليتنافس المُتنافسون.

*كانت تتقافز حكاياتنا من دُكانٍ إلى لحّام إلى بياع خضار إلى معلّم الفلافل إلى بائع الإسفنج المُقسّم إلى مربّعات إلى سائق باص (أربد – كفرابيل) إلى إمام المسجد الى جدي ثم إليّ، ورغم أني أعرف أن بعض نساء قريتي البارعات بإعداد خبز الطابون بارعات أيضا بإختلاق القصص وتأويل تفاصيلها وإقناع أزواجهنّ بصدقها (ذات نصف ساعة أخيرة قبل النوم) وهي أخطر نصف ساعة قد تُغِيرُ صدر رجلٍ على ابنته او أخته او حتى أُمّه،

رغم كل ذلك، إلا إنني كنت أُصدّقهن أحيانًا، فلماذا ألوم سواي؟

كُنّ يخبزن الأقاويل على جمر الحصى، يُكوِّرن الكذبة في إناء العجين، ومن أثوابهن المقلوبة ضدّ أتربة الطرقات كانت تفوح رائحة لحوم البشر ودماء المغدورات على يد وليّ أمر أحمق، والحمدلله أنّي سلمتُ من الغدر مع أني لم أسلم يوما ولن أسلم من التنكيل، ولا زلتُ “حتى الآن” لا أحبّ مجالسة النساء، ولا تطيق بعض النساء وجودي.

"التقرير"