الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٣:٢٦ صباحاً

الآثار الاجتماعية للجنون الحوثي

رياض المسيبلي
الاثنين ، ٠١ يونيو ٢٠١٥ الساعة ١٠:٥٠ صباحاً
عندما تحققت الوحدة اليمنية سنة 1990 كان آخر تصادم بين بعض المناطق الجنوبية الحدودية ودولة الإمامة الزيدية يعود إلى أكثر من نصف قرن. ولكن، الذاكرة الشعبية كانت ما تزال تحتفظ بكثير من التصورات والقصائد والقصص، وكذلك الأوهام عن ذاك الصدام. كان أهل مناطقنا المحاذية للبيضاء يطلقون وصف الزيود على كل من أتى من أقصى الشمال وإن لم يكن زيديًا. ومع تلك التسمية اختلطت كثير من أوهام الماضي وأثقال الصراع القديم. لم تعرف غالب المناطق الشرقية والجنوبية في اليمن حكم الإمامة إلا في فترات متقطّعة لم يطل أمدها، بخلاف بعض مناطق الشافعية في الوسط والشمال اليمني. قد تنتهي آثار السياسة في بلد ما، ولكن الشروخ الاجتماعية تبقى وشمًا في ذاكرة الشعوب؛ وذلك ما حدث بعد ثورة 1962 في الشمال حينما تعفّن الصراع السياسي ليصبح نزعة مدمّرة تحت اسم القحطانية أمام الهاشميين. ولا يستطيع دارس لتاريخ تلك الحقبة التي أعقبت ثورة سبتمبر إنكار أنّ كثيرًا من الأسر الهاشمية وقعت ضحية عصبيةٍ رعناء قادتها بعض أقلام المثقفين اليمنيين الذين أرادوا طمس الماضي بكل سوئه وحسناته معًا.

تهتم نشرات الأخبار اليوم، بخصوص اليمن، بأخبار السياسة وبمجد الانتصارات أو بؤس الهزائم؛ ولا يجد المتابع شيئًا مما حدث من صدع في قلب المجتمع اليمني. لكنّ اليمنيين يسمعون الأخبار التي تصلهم من مناطقهم؛ وهي أخبار كانت تتوالى من قبل التوسّع الحوثي الأخير. فنسمع أخبارًا عن بعض الأسر الهاشمية التي قررت أن تنسى سنّيتها أو زيديّتها لتناصر هذا المد الحوثي. وعرفت مناطق، مثل رداع مثلًا، اغتيالات لبعض الهاشميين بتهمة تحوّثهم، ولا يهم هذا الجنون صدق هذه التهمة من زيفها. وهكذا تصاعد البؤس الإنساني لتخرج الأحقاد الدفينة فتغتال قلب هذا الوطن. لا ريب في أنّ بعض الهاشميين، ولو كانوا ليبراليين، وقعوا في الفخ الحوثي؛ ولكن هذا الفخ قد ابتلع غيرهم من اليمنيين كذلك. فالمصلحة اللعينة قادت بعض القبائل إلى هذا المأزق، وبغض بعضهم لتيارات الفريق الآخر، كالإخوان مثلًا، جعل من بعض النفوس تعقد صلحًا مع الخلطة الحوثية الغريبة. فلا غرابة أن نجد اليوم في أوساط المثقفين اليمنيين ما أسميهم بـ (الليبراثيين)!

لقد أوجد نظام علي صالح وضعًا مأساويًا في اليمن جعل من محاولات إصلاح هذا الوطن شيئًا أشبه بالمستحيل. ومن كان على معرفة بالشعور السائد عند كثير من أبناء المناطق الجنوبية تجاه إخوانهم في الشمال يدرك إلى أي مدى أصابنا ذاك النظام في مقتل؛ فالظلم الذي مارسه نظام المخلوع على أبناء المناطق الجنوبية جعل من هذا الشعب ينفصل في قلبه قبل انفصاله في أروقة السياسة. وهكذا رأينا من أبناء الجنوب اليمني من ينكر حتى (يمنيّته) ويتعلق بحبال الوهم. لقد حرص النظام العفّاشي على زرع الانقسام بين أبناء شعبنا اليمني بعد الوحدة بشكل منظّم وخبيث. وأستطيع القول إنّ الشيء الوحيد الذي كان يمارسه علي صالح بشكل متقن هو تشتيت هذا الوطن.

ها هم الحوثيون اليوم يثبتون لليمنيين كل ما أشيع عنهم؛ بل ويتكرّمون بإثبات المزيد. وفي تركيبة عقائدية غريبة على اليمن يمارسون تصفية حساباتهم مع كل من يقاومهم برميه بتهم الإرهاب وغير ذلك. وحقيقة الأمر: ألّا فرق بينهم وبين التنظيمات المتطرّفة التي أرادوا وضع غالب اليمنيين في سلّتها ليمارسوا جنونهم. فالحوثيون والقاعدة يقتلون اليمنيين باسم الدين، وبعيدًا عن الدين والسياسة يتشرذم هذا الشعب كل يوم جرّاء هذا الإجرام الممارس من قبل هذه الجماعات. ويزداد الخوف من أن يدخل هذا الوطن في دوّامة طويلة من الانتقامات كما شهدها في ستينيات القرن الماضي. إنّ همَّ المجتمعات أعصى ما يكون على الجماعات المتطرّفة؛ وذلك لأنّ التطرّف هو نظرة إقصائية وسلطوية. التطرّف هو ضرب من الاستبداد؛ يرى المجتمعات ككيان لا تنوّع ولا حيوية فيه. يراها أرضًا تتلقى الأوامر وتهبط عليها الممارسات المفروضة، ويغفل التطرّف عن أي شيء قد يغيّر من نظرته المستبدة هذه. وليس لدى التركيبة الحوثية ما يمكن لأحدنا أن يأمل منها شيئًا سوى قتل الأمل ولا شيء غيره. لا يدرك الحوثيون هذا الزمان ولا خصوصية المكان؛ فهم كغيرهم من المتطرّفين ينطلقون من مفاهيم تجاوزتها التغيرات الاجتماعية في اليمن. لم يعد اليمن اليوم موطنًا لطبقية تأتيه باسم الدين. ويمن ما بعد ثورة 2011 تغيّرت فيه أشياء جوهرية وإن لم تأخذ الثورة وقتها الكافي، جرّاء السكاكين التي تكاثرت عليها، لتظهر ما أحدثته من تغيير. لا يدرك الحوثيون غربتهم وغرابتهم؛ وذلك لأنّ الانتصارات الزائفة وقبلها الأيديولوجية المتطرّفة جعلت بينهم وبين أنفسهم من جهة، وبينهم وبين سائر اليمنيين من جهة أخرى سدًا من الأوهام. وهكذا ظلمت الزيدية، الطائفة التي خرج منها الحوثيون، ووقعت في شبائك الريبة لتواجه مستقبلًا مجهولًا في بلد حمل بصماتها لأكثر من ألف عام.

إنّ ذاكرة الشعوب لا تموت؛ وأخوف ما يخاف منه أن تعتقد هذه الذاكرة بأنّ الموت هو عين الحياة.

* التقرير