الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٣:١٣ مساءً

اليمن ما بين الاحتراب والوحدة

عبد النبي العكري
السبت ، ٢٨ نوفمبر ٢٠١٥ الساعة ١٠:٣٤ صباحاً
المتابع للحرب اليمنية الحالية وهي واحدة في سلسلة من الحروب التي شهدها اليمن منذ الاحتلال العثماني في القرن التاسع عشر، لا تخطئ عينه تعقيدات هذه الحرب.

العلم السابق لجمهورية اليمن الديمقراطية بنجمته الحمراء وسط المثلث الأزرق، ترتفع على المباني وفي الشوارع وعلى الدبابات والعربات المصفحة لمقاتلي الجيش الوطني، الموالي للرئيس هادي، تمييزاً له عن الجيش اليمني (الموالي لعلي صالح) والذي يرفع علم الجمهورية اليمنية، والذي يرتفع في المناطق التي يسيطر عليها تحالف الحوثي - صالح ومما له دلالاته أن تحالف الحوثيين - صالح استطاع الاستيلاء على الثكنات والمعسكرات ووزارة الدفاع والأركان بترتيبات من داخلها (شبكة علي صالح) وبيسر، واجتاح المحافظات اليمنية بدءاً من صعدة في الشمال حتى وصل إلى محافظة عدن بعد احتلال المحافظات المحيطة بها مثل لحج وأبين وشبوه، بسهولة، وفجأة بدأ القتال اليائس في عدن من قبل مقاتلي الحراك الجنوبي، الداعين لاستقلال الجنوب اليمني، ومواطنين عاديين قبل أن تبادر قوات التحالف إلى التدخل بالقصف الجوي أولاً، ثم إسقاط الأسلحة للمقاومين ثانياً، ثم التدخل البري والبحري أخيراً، ولتستنهض قوى الشرعية للقتال لتبدأ حرباً أهلية ضروساً، تسير عكسياً لما جرى بإلحاق الهزائم المتتالية بقوات الحوثي - صالح، وتحرير مناطق الجنوب، ودفع قوات الحوثي - صالح للشمال ما شجع مدناً ومناطق في الشمال مثل تعز والبيضاء ومأرب للانتفاض، لتدشن مرحلة أعنف حيث الاصطفاف جنوبي - شمالي أو شرعية هادي مقابل تحالف الحوثي - صالح.

كثيرون ولهم العذر حائرون من دورات الحروب والقتال المتتالية في اليمن وخصوصاً أن دورات القتال هذه تأتي إثر توافقات أو اتفاقات وطنية بل وإثر تحقيق اختراقات كبيرة مثل قيام الوحدة اليمنية في 27 مايو/ أيار 1990 أو إنجاز الحوار الوطني وانتخاب رئيس جمهورية انتقالي هو عبدربه هادي في يناير/ كانون الثاني 2013، تمهيداً للتصويت على الدستور الجديد، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية تكرس المصالحة الوطنية والتحول الديمقراطي، وتضع حداً للانقسام اليمني. بالطبع لن أستعرض هنا جميع عناصر الأزمة اليمنية، ولا المسيرة التاريخية المتقلبة للعلاقات بين اليمنيين؛ ولكنني سأعرض جانباً واحداً مهماً من عوامل الأزمة اليمنية، وهي قضية الوحدة ومقابلها الانفصال، وقضية الهوية اليمنية مقابل الهويات المحلية الفرعية، حيث تتداخل القضيتان مع بعض.

من المعروف أن اليمن كان مزدهراً في عصر ما قبل الإسلام، وقامت على أرضه حضارات عظيمة مثل معين وسبأ وقتبان وحضرموت، وشهد اليمن مشاريع عملاقة في حينها مثل سد مأرب، وإقامة المدرجات الزراعية على جباله حيث تدل الشواهد على زراعة مزدهرة وتجارة نشطة، وعلاقات واسعة وقد جاء ذكر الملكة بلقيس في القرآن الكريم، مع وصف لعرشها الفخم، لكن جميع الممالك اليمنية المذكورة لم تبسط سيطرتها كاملة على كامل التراب اليمني، وقد جاءت مرحلة ثنائية الاحتلال التركي والاحتلال البريطاني لتكرس انقسام اليمن بين شمال تحكمه أسرة حميد الدين، وجنوب مكون من مستعمرة عدن و37 محمية بين إمارات ومشايخ، حيث استمرت هذه الوضعية من 1827م عند احتلال الإنجليز لعدن، وبسط سيطرتهم على الجنوب اليمني، حتى جلاء الاستعمار البريطاني إثر حرب تحرير شعبية تكللت بالاستقلال في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967 متزامنة مع هزيمة حزيران في 1967، وبالنسبة للشمال اليمني، فقد ترتب على ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962، إسقاط النظام الإمامي المتحجر، وآمال واسعة بتحول تاريخي ليس في اليمن الشمالي فقط، في ظل دعم النظام الناصري وأنظمة عربية أخرى ولكن بتحول أوسع لليمن كله بتحرير الجنوب اليمني، وتحقيق الوحدة اليمنية التي حلمت بها أجيال اليمنيين، لكن الأمور لم تسِر كما نعرف وغرقت الجمهورية اليمنية في حرب أهلية ضروس لها أبعادها الإقليمية والدولية، استنزفت البلاد بشراً وموارد، وانتهت إلى تسوية إثر هزيمة يونيو 1967، باتفاقية جدة بين السعودية ومصر، لتشكيل سلطة ملكية/ جمهورية متعثرة، وفاتحة الأبواب أمام انقلابات متتالية، إلى أن استقر الحكم للعسكري علي عبدالله صالح في 1978، ليحكم البلاد حكماً مديداً على شاكلة الأنظمة الاستبدادية الفاسدة ومع الاستئثار بالسلطة، وإفساد البلاد نخباً وجماعات، ارتد الكثيرون إلى انتماءاتهم الفئوية، فأضحى هناك انتماءات مناطقية وقبلية.

أما بالنسبة للجنوب فقد تحول حلم البناء والتقدم وتوحيد الجنوب اليمني المتشرذم والمجزأ إلى مزيج من التقدم والتراجع، ومن أهم عوامل التعثر والتي فصّلها فواز طرابلسي في كتابه «جنوب اليمن في حكم اليسار» الانحياز اليساري والاستئثار بالسلطة للحزب الحاكم، والأدلجة المفرطة للدولة، وسياسة خارجية منحازة للاتحاد السوفياتي، وبذا أضحى جزءاً من الصراع الإقليمي، وترتبت عليه سلسلة من الانقلابات في السلطة باستخدام السلاح وأولها إزاحة أول رئيس للجمهورية قحطان الشعبي وتياره فيما عرف بالحركة التصحيحية في 23 يونيو 1969، ومن حينها لم تستقر السلطة ولم تستقر الأوضاع حيث شهدت البلاد دورات من القتال الأهلي أخطرها في 1978 ثم في 1986 وما بينهما من تصفيات سياسية وبشرية. وإضافة إلى ذلك، فقد شهد شطرا اليمن حربين في 1972 و1979. مع اشتباكات حدودية، وتبني كل شطر المعارضة للشطر الثاني كبيادق في الصراع بينهما.

ورغم الإنجاز الكبير للنظام الجديد في توحيد 38 إمارة ومشيخة إضافة إلى مستعمرة عدن، في كيان جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وتقسيم البلاد إلى 6 محافظات رقمية (من 1 إلى 6)، وذلك في محاولة لتجاوز النزعة المناطقية، وتعزيز الهوية الوطنية، إلا أننا سنرى بعد حين إعادة الاعتبار للمناطقية وإعادة تسمية المحافظات بأسماء المناطق التاريخية (عدن، لحج، أبين شبوة، حضرموت، المهرة)، وهذا ينطبق أيضاً على تسمية القياديين بأسمائهم الحقيقية بما في ذلك اسم القبيلة أو العائلة. وهكذا شيئاً فشيئاً ولعدة أسباب تعززت النزعة المناطقية والانتماءات القبلية، وخصوصاً في ضوء تقلبات النخبة الحاكمة وانتماءاتها بسبب الصراعات المتتالية.

هناك عامل مهم في فهم هذا الإلحاح الشديد على الوحدة، وفشل مشروعها في التطبيق العملي. اليمنيون عموماً يعيشون على ذكرى الماضي المجيد في مواجهة واقعهم المتخلف والمنقسم. لذلك ومنذ ظهور أول حركة وطنية حديثة في اليمن الشمالي وهي حركة الأحرار اليمنيين، والتي حاولت إسقاط حكم الإمامة في 1948، ولجأت قياداتها المتبقية إلى عدن، فقد طرحت قضية الوحدة الوطنية كمهمة أولى من قبل النخب السياسية والثقافية لكن هذا الطرح يفتقر إلى إدراك الفوارق الكبيرة في الانتماء ويفتقر إلى خطة عملية للتوحيد.

فخلال قرنين ونصف من التجزئة، نمت هويات فرعية، إضافة إلى هويتين يمنيتين متبانيتين، جنوبية ذات منحى ليبرالي بفعل حكم الإنجليز المديد، وشمالية محافظة بفعل حكم الإمامة المديد. والذي ورغم وجود بعض المؤسسات مثل اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين مثلاً، ووجود تداخل بشري محدود وخصوصاً في المستعمرة عدن ووجود كوادر وقيادات وعناصر شمالية في المنظمات السياسية والمدنية الجنوبية بفعل انفتاح عدن أساساً، إلا أن العكس غير صحيح، أي عدم وجود قيادات جنوبية في تنظيمات ومنظمات شمالية، إلا بصفة وظيفية.

لكنه ومع اقتراب التسعينات فقد وجد النظامان في عدن وصنعاء نفسيهما في مأزق. نظام عدن مستنزف بفعل الحرب الأهلية والانشقاق الكبير في الحزب الحاكم والدولة والجيش إثر مأساة 13 يناير 1986، فضعف النظام، وخصوصاً أن ذلك ترافق مع نهج الاتحاد السوفياتي الجديد وخلفه الدول الاشتراكية بالتخلي عن عبء دول مثل اليمن الديمقراطي. وبالنسبة لنظام صنعاء، فقدْ فقدَ أهميته في الاستراتيجية الأميركية والإقليمية كمواجه للنظام اليساري واحتوائه، وبدأ تقنين المساعدات له. من هنا وفي ظل صراعات إقليمية بانت نذرها قرر النظامان الهروب إلى الوحدة، كمخرج لمأزقهما وهكذا تمت الوحدة بموجب ما عرف باتفاق النفق بين العليين علي صالح رئيس اليمن الشمالي وعلي البيض أمين عام الحزب الحاكم في اليمن الجنوبي، دون تدرج ودون دراسات دون خطة لدمج نظامين متنافرين سبق لهما خوض حربين.

وهكذا لم تتحقق الآمال في وحدة تجمع أفضل ما في التجربتين والنظامين، بل بدأت الخلافات تدبّ بين الفرقاء في الحكم، وبلغت قمتها في حرب مدمرة لا سابق لها في يناير/ كانون الأول 1993، وانتهت باجتياح القوات العسكرية والقبلية للجنوب لتثبت حكم الغلبة في صنعاء، ولتدشن مرحلة انحطاط تجربة الوحدة، ولتطلق صراعاً مريراً من أبرز ملامحه قيام ما يعرف بالحراك الجنوبي المطالب باستعادة دولة اليمن الجنوبي، وفك الوحدة، وهنا حدث ما يعرف بثورة الربيع العربي في اليمن، والتي نجحت في زعزعة حكم الاستبداد والفساد لعلي صالح، وكان يمكن أن تكون إعادة الوحدة لليمن على سكة الإصلاح والديمقراطية والمواطنة المتساوية. ولكن وكما حدث في عدد من البلدان الأخرى، تدخلت قوى تقليدية نافذة وقوى إقليمية ودولية لتحرف هذه الثورة، وتعيد اقتسام الغنائم، رغم التوصل إلى خطة توافقية إثر الحوار الوطني، وانتخاب عبدربه منصور كرئيس توافق مؤقت، والتحضير للاستفتاء على الدستور وإجراء وانتخابات رئاسية ونيابية على أساسها يؤسس لنظام جديد. وفي ظل التسيب وأنانية النخب وتكالبها، قفز الحوثيون وصالح إلى المشهد، ليسقطوا نظام هادي، وليزحفوا من صعدة في أقصى الشمال إلى عدن أقصى الجنوب ولتسقط العاصمة وباقي المحافظات كالتفاحات الناضجة، ولكن في الوقت ذاته لتسقط صيغة الوحدة والدولة المركزية من صنعاء أيضاً.

وها نحن نشهد حرباً أهلية وخارجية بدءاً من مارس/ آذار 2015، حيث انشطرت البلاد مرة أخرى، ومن الواضح أنه على رغم استراتيجية حكم هادي على «تحرير البلاد من تحالف الحوثي - صالح»، وفرض سلطة الدولة مرة أخرى والحفاظ على الوحدة، إلا أنه من الواضح أن اليمن الموحد لن يعود، وبالطبع لن يعود أيضاً ككيانين بحسب الحدود القديمة. فمن الواضح أن شطراً من الشمال أي محافظات مثل تعز والبيضاء ومأرب وباب المندب، وإب، لن يعود إلى سلطة مركزها صنعاء. هناك انقسام مناطقي شمالي جنوبي، وهناك انقسام مذهبي زيدي شافعي، وهناك انقسام سياسي ليبرالي محافظ وغيره.

إن أفضل حل انتقالي برأيي هو يمن فيدرالي، كثمرة لإيقاف الحرب، والتزام مختلف القوى السياسية على مخرجات الحوار، وإبعاد العسكر نهائياً عن السياسة وبناء جيش وطني، وإدخال الإصلاحات العاجلة في النظام السياسي، ثم الاستفتاء على صيغة الدولة والنظام باستمرار الاتحاد الفيدرالي أو دولتين متعايشتين، وإلا فإن الحرب ستطول وتطول وبالطبع فإن نجاح ذلك يتطلب دعماً إقليمياً ودولياً، ولكن دون تدخل عسكري أو سياسي أو غيره، بل مساعدة اليمنيين على المصالحة.

* الوسط البحرينية