الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ١١:٥٦ مساءً

صورة 2015

محمد جميح
الخميس ، ٣١ ديسمبر ٢٠١٥ الساعة ١٠:٠٨ صباحاً
لا تقبروناش». توسل طفل يمني لم يتجاوز العاشرة في عام 2015 لأبيه وللأطباء. كان «فريد» على سرير المستشفى بعد إصابته بقذائف الحوثيين التي انهمرت على حيه في مدينة تعز. «لا تقبروناش». قالها فريد، لكنهم قبروه، معرضين عن توسلاته ووصيته.
«نأسف، خالفنا وصيتك، لا مناص من القبر يا فريد». قالها كاتب تقرير متلفز، وهو ينقل خبر وفاة فريد. الصورة أرجوانية، لا تزال تنز دماً مع نهاية عام 2015. الأرجواني كان اللون المميز لهذا العام، تضرجت به الخريطة الممتدة «من الشام لبغدان، ومن نجدٍ إلى يمنٍ، إلى مصر فتطوان»، كما قال شاعر عربي حالم.
تمتد الصورة كغيمة مجرحة، مضرجة بمطر أحمر، غيمة تسربلت بأصوات الرعود المقبلة من مآسي التاريخ. أنين كوني للخنساء ترثي رجلاً كان اسمه صخراً في نجد، وأصبح اسمه «فريداً» في تعز، وتحول إلى حمزة في درعا، وتبدد دمه بين قبائل الروس والإيرانيين والأمريكيين وغساسنة الشام ومناذرة العراق، وجماعات الحشاشين، وداست روحه سنابك الخيل المغيرة بين عبس وذبيان.
ذهبت في 2011 إلى مبنى الخارجية البريطانية وسط لندن، كنت على موعد مع أليستر بيرت، وزير الدولة لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في حينها. دخلت، فباشرني بالسؤال: محمد، هل تعتقد أنه سيرحل؟ ضحكت، وقلت: جئت لأسألك لا لتسألني يا سيد بيرت؟ ودار الحوار بيننا، ونشر في حينه.
كانت الصورة في صنعاء حافلة في 2011، وكانت الشوارع تضج بالهتاف، وكان الشعار الكبـــــير «ارحـــل» مدوياً، وكان الوزير البريطاني يسأل عن علي عبدالله صالح، هل سيرحل؟
ودارت الأيام، ولم يرحل علي عبدالله صالح، الذي انحنى لعواصف النار التي انسفحت من جسد التونسي محمد البوعزيزي لتحرق جسد النظام السياسي العربي، وأجزاء واسعة من خريطة بلاد ما بين المائين. لم يرحل صالح، رحل الذين طالبوا برحيله، وبقي شمشون يحدث قبيلته عن قدراته الهائلة في هدم المعبد على رؤوس المصلين، الذين حدثهم أنه هدمه لأجلهم، في حين أنه هدمه لأجل عيني محبوبته.
وفي 2015 المشهد مختلف. صورة شوارع صنعاء مقفرة، بعد أن حولتها الضغائن السياسية والحرب إلى مدينة أشباح، تعوي فيها كلاب الحارات المشردة، وتأكل شاة جائعة ما تبقى من لوحة مرمية على قارعة الطريق عليها صورة لعبدالملك الحوثي.
في المشهد اليمني، ومع نهاية 2015 تظهر صورة لفتاة من عدن، خرجت تبحث عما يسد رمقها، وصلت البقالة، لم تستطع شراء ما تريد، لم تكفها النقود، انهارت على الأرض من الخوف والجوع والتعب، توسدت يديها ونامت. ومع نهاية العام، كانت هناك صورة مشابهة لعجوز سورية هجرت من بلدتها، توسدت أوجاعها ونامت، ربما كانت تلك العجوز السورية، هي الصبية اليمنية التي هرمت سريعاً بفعل ما رأته من أهوال. في الأزمنة الصعبة يتماهي أصحاب المآسي، فتظهر صبية يمنية فقيرة في صورة عجوز سورية تلقي بأغراضها على قارعة الوهم، وتنام، قبل أن تواصل رحلتها جهة المجهول.
وفي 2008 التقيت الباحثة البريطانية شيلا ويلغ المختصة في الشأن اليمني في SOAS، وحدثتني شيلا عن محافظة صعدة، وجمالها، ورأيت صوراً بالغة الروعة أخذت لصعدة قبل أن يظهر فيها آية الله الحوثي بسنوات طويلة. لكن 2015 كان عاماً كارثياً على صعدة، التي تحولت إلى لغم كبير، ومنجم لإنتاج الأفكار المعلبة التي قتلت خيرة أبنائها في معارك ضد الحوثيين أو معهم.
لا ينتهي 2015 إلا وقد قدم لنا صورا من التراجيديا السورية في حلب وحمص وإدلب، وغيرها، ولكن مع صورة لدراكولا السوري بشار الأسد مبتسماً على أنقاض بلاده التي سلمها للإيرانيين والروس ولحسن حزب الله.
البراميل المتفجرة التي ألقاها بشار على مدن حمص وحلب ستظل صورتها عالقة في ذاكرة العالم لقرون مقبلة، وستضيف هذه البراميل المدنَ التي ألقيت عليها، ستضيفها إلى قائمة المدن التي محيت من الخريطة بفعل الحروب والكوارث الطبيعية، ولا شك أن نيرون سيكون سعيداً بأن يفسح إلى جوار تمثاله مساحة لتماثيل أخرى، سيكتب عليه اسم بشار الأسد، قاسم سليماني، وحسن نصر الله.
عام 2015 لا يمر بدون أن تطالعنا قناتا: «المنار» التابعة لحزب إيران في لبنان، و»المسيرة» التابعة لجماعة إيران في اليمن، بسبق إعلامي يقدم لنا «أبطال الأقبية»، يرسلون فيديوهاتهم إلى هاتين القناتين متوعدين الإرهابيين والدواعش والتكفيريين وأمريكا وإسرائيل من بطون جبال صعدة وأقبية الضاحية الجنوبية في بيروت.
مشاهد تمتزج فيها قطرات الدم بالدمع والصراخ، والتهديد والشعارات، تتلطخ بها أرواحنا كل مساء، ونحن نقف أمام الشاشات التي يتفجر الدم من جنباتها مع صورة حسن نصر الله يهتف من قبوه «لبيك يا حسين»، وصورة تلميذه الحوثي من داخل الكهف يهتف «هيهات منا الذلة».
بغداد في 2015 غير بغداد عاصمة الرشيد، أصبحت بغداد عاصمة قاسم سليماني، أما مدن الرمادي والفلوجة والموصل، فقد عادت للوراء مع صور ميليشيات «الحشد الشعبي» الإيراني، القادمة من عصر «ثارات الحسين» للانتقام من أبناء تلك المدن النواصب الذين قتلوا «أبا عبدالله»، ومنعوا الماء عنه، مع صور تهجير الملايين منهم ليحل محلهم ملايين جاؤوا من بلاد ولي أمر المسلمين، علي خامنئي، «الولي الفقيه العادل»، على رأي حسن نصر الله.
لا ينتهي عام 2015 من دون أن تطل علينا صورة أمير المؤمنين، الخليفة أبوبكر البغدادي، متوعداً على طريقة حسن نصر الله، وقد سحب القرن الأول الهجري من جلبابه، ليسقطه على القرن الواحد والعشرين الميلادي، ومجبراً التاريخ على أن يغير مجراه إلى الوراء.
كل تلك الصور الفجائعية تسجلها لنا شاشات راعفة، قبل أن تصل إلى سيناء و»قاهرة المعز» وبنغازي وطرابلس، التي تغنينا عن مشاهدة صورها صور طالعناها من تعز وحلب، ذلك أن صورة صنعاء لا تختلف عن صورة بغداد أو دمشق أو طرابلس الغرب، أو صحراء سيناء.
المصور والمنتج والمخرج واحد وراء كل هذا المشهد العربي الحافل بمآسيه.
غير أن المشــهد لا يكتمل من دون أن يؤطره المنتجون بصورة موغلة في رمزيتها وقداستها وفجائعيتها وحزنها ومعانيها الكبيرة. صورة الطفل السوري الذي قتلته براميل بشار الأسد، والذي قال قبل ثوانٍ من موته: سأخبر الله بكل شي.
وداعاً 2015…هل ستخبر
التاريخ بكل شيء؟