الثلاثاء ، ١٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ١٠:١٨ صباحاً

ال"ترامبية"...عالم يتجه يميناً

محمد جميح
الخميس ، ١٤ يوليو ٢٠١٦ الساعة ٠١:٠٧ صباحاً
الطريق المؤدية إلى النهايات الكارثية تفرش عادة بأحلام البدايات. نشوة بداية المعركة، تنسي المقاتلين مرأى المقابر الجماعية التي تلوح في الأفق.
البدايات المثالية الحالمة تنطلق ـ عادة ـ من أساطير حول العرق واللون والجنس والثقافة والتميز، والقطيعة عن الآخر، والتقوقع والانطواء على النفس.
ومع أن التميز العرقي خرافة، إلا أنه يتم التعامل معها على أساس أنها حقيقة مقدسة. أصل الإنسان واحد، وتركيبته الفسيولوجية والذهنية، وخريطته الجينية، تشير إلى واحدية الأصل الإنساني، لكن البقاء ـ دائما ـ للأسطورة لا للحقيقة.
تخترع المجموعات البشرية عادة الأساطير لتعيش عليها، لتؤسس لمسعاها الدائم نحو السيطرة والغلبة والثروة والسلطة. وفي هذا الشأن لا ضرر من أن يقال إن أكبر الحقائق الراسخة لدينا ولدت من رحم الأسطورة.
الشاعر العربي القديم الذي قال:
ملأنا البر حتى ضاق منا
وظهر البحر نملؤه سفينا
لم يكن يتحدث عن جيوش الإمبراطورية الرومانية التي ملأت البر والبحر، وإنما عن مجموعة من الأعراب. ولكنه البناء الأسطوري لدى الشاعر الذي أراد أن يخيف أعداء قبيلته، فلجأ إلى حيلة الشعر، متقمصاً أسطورته الشخصية، وحلمه المثالي. ومثلما كان عمرو بن كلثوم فاشياً يتكئ على الأسطورة، بشكل أو بآخر، فإن التوجهات الفاشية والنازية في أوروبا التي قادتها إلى الكارثة، كانت في الأساس مبنية على أساطير جاء العلم المخبري الحديث لدحضها.
نحن إذن نخترع الأسطورة، ومع الزمن نحولها إلى حقيقة، ثم إلى يقين مطلق، نتصرف على أساسه، ثم نذهب بسببها إلى نهاية الطريق الذي انكشف عن عشرات الملايين من القتلى في الحرب العالمية الثانية.
قبل أسابيع، صوت الناخب البريطاني لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. وجاء التصويت للخروج مؤشراً على حالة تقوقع تمر بها تلك الجزيرة التي تتشظى ذهنياً بين «بريطانيا العظمى» التي لا تغيب عنها الشمس، و»المملكة المتحدة» التي تجري لاهثة وراء باراك أوباما وأنغيلا ميركل. مثّل تصويت البريطانيين ردة فعل عنيفة تجاه أفكار العولمة التي طرحت شعارات حرية السوق لتحقيق الرفاه، ثم انتهت إلى مجموعة من «الميكانيزمات» التي كوّمت الثروات في يد حفنة من الرأسماليين الجشعين، بينما لم يعد راعي البقرة في الريف الانكليزي يجد كفايته من حليبها.
هي ـ إذن ـ ثورة الريف على المدينة، ثورة الفقراء على الأغنياء، ثورة «بريطانيا العظمى» ضد «المملكة المتحدة»، ثورة البرجوازية ضد الرأسمالية، ثورة «الأنا» ضد الآخر، «الأنا» الملتفة بماضيها ضد الآخر العاري من ماضيه الأسطوري، أو الآخر الذي تريد هذه «الأنا» إعادة إنتاجه، لتكتمل شروط وجودها بوجوده. إنها باختصار ثورة المشاعر القومية ضد المثاليات الغلوبالية، وشطحات العولمة. وأيا ما تكن تفسيرات ومؤشرات تصويت البريطانيين للخروج من أوروبا، فإن ما جرى يشير إلى توجه بريطانيا، وأوروبا – التي اشتمط شعر رأسها – والعالم كله، إلى اليمين. اليمين يتقدم، ومجاميع اليسار، ويسار الوسط، ويمين الوسط تتجه يميناً، في سيرورة سياسية وفكرية تذكر بالبيئة التي تمخضت عنها الأفكار النازية والفاشية في أوروبا القرن الماضي.
ظاهرة دونالد ترامب، أو «الترامبية» في الولايات المتحدة تشير إلى الكيفيات التي تكشف فيها «اليمينية الجديدة» عن نفسها في الغرب والولايات المتحدة. نسبة التأييد العالية لترامب في أوساط «اليمين المسيحي» المتطرف تكشف عمق العلاقة بين الشعور القومي الذي يكتسح الحضارة الإنسانية اليوم، والمشاعر الدينية في ثوبها الرجعي.
«الترامبية» موجودة كذلك في أوروبا والشرق الأوسط. لدى كل منا «ترامبه» الخفي الذي يتجلى بشكل أو بآخر حسب الظروف والبيئة الثقافية والدينية. والملاحظ في الظاهرة اليمينة التي تجتاح العالم اليوم أنها تعود إلى الماضي الديني في حركة رفض عنيفة للحاضر بكل معطياته الحضارية.
نحن في الشرق الأوسط ـ مثلاً ـ عدنا إلى عباءة علي ومعاوية، فيما يتذكر الرئيس التشيكي ميلوش زيمان المعادي للمسلمين ماضيه المسيحي، وقد شارك مؤخراً في فعاليات قامت بها حركة «لا للإسلام» اليمينة المتطرفة التي دعا زعيمها مارتن كونفيتشكا إلى «جمع المسلمين في معسكرات اعتقال، وفرمهم في فرامات أعلاف الحيوانات».
هل تذكرون شخصاً مر عبر القارة العجوز كالبرق، وخلف وراءه أربعين مليون قبر؟ لابد أن «هتلر» يبتسم الآن وهو يسمع دونالد ترامب يتحدث عن منع المسلمين والمكسيكيين من دخول الولايات المتحدة. «الهتلرية» تعود مجدداً في ظاهرتها «الترامبية» المعاصرة. وفي إسرائيل يدعو الحاخام الأكبر إسحاق عوفاديا إلى طرد الفلسطينيين إلى السعودية، لأن «أرض إسرائيل لشعب إسرائيل»؟ المثير، أن اليمين المتطرف يتمدد بقوة في بلدان أوروبا الشرقية ذات الماضي الشيوعي، الذي استلهم أفكار ماركس عن العدالة والاشتراكية والمساواة الإنسانية. تتمدد هذه الحركة داخل النسيج المسيحي مثلما هي داخل النسيج المسلم، ليبرز الصراع القومي داخل أوكرانيا في شكل من أشكال الصراع الديني بين الكاثوليك ذوي الميول الغربية والأرثوذكس الشرقيين.
لعل فرانسيس فوكوياما يعض راحة يده ندما على الزلة الكبرى التي وقع فيها عندما بشر بـ»نهاية التاريخ» واستقراره على نموذج الديمقراطية الليبرالية في السوق والدين والفكر والفلسفة والسياسة.
التاريخ لا ينتهي ـ عزيزي فوكوياما – ولا يتكرر، ولكنه يعيد إنتاج مجموعة من «الموتيفات» الحافزة التي تحرك عجلته التي تتحرك وفقاً لحتميات طبيعية تعطي كل دورة من دوراته مظهرها ومحتواها الخاص. والتاريخ اليوم فيما يبدو يتجه يميناً، والاتجاه يميناً يكون غالباً باستدارة للخلف، للماضي، للدين، للسلالة، للعرق، للقومية، للجد الأعلى، للأساطير المؤسسة لحركة التاريخ. تلك الأساطير التي يؤمن بها أتباعها بيقين أعمى مع أن أدنى قدر من التفكير في مقولاتها يجعلها تنهار بشكل مثير وسريع.
كان مسلمان يتجادلان على صفحة الفيسبوك في حالة من التشنج. يقول أحدهما للآخر: جدتي فاطمة بنت النبي، وجدتك هند التي أكلت كبد عم النبي، وفرق كبير بين الأصلين. كنت أضحك، وأنا أتباع النقاش والردود التي نسيت أن هنداً وفاطمة – إذا ما أردنا أن نعلي من شأن النسب – يجتمعان في أصل/جد واحد هو عبدمناف بن قصي. الحقيقة المرة هنا أنه مع توجه العالم يميناً تطل علينا ثارات الماضي القريب والبعيد، ويخرج المسلمون من عباءة علي ومعاوية، كما يخرج المسيحيون من عباءة ريتشارد قلب الأسد وفرديناند وإيزابيلا، وملوك الحق الإلهي المتصارعين.
والخلاصة: الأفكار التي سادت العالم بعد الحرب العالمية الثانية ـ وكنتيجة لها ـ والتي أسست لمرحلة من مراحل المساواة الإنسانية، ومكافحة العنصرية والنازية والفاشية، هذه الأفكار يتم اليوم تراجعها لصالح الأفكار ذاتها التي سادت عشية اندلاع الحرب.
لا يستطيع أحد أن يمنع حركة التاريخ، ولكن أدوات الإنتاج الثقافي والسياسي تستطيع التقليل من الغبار المريع الذي يمكن أن تثيره عجلته العملاقة.
واليوم، وفي أوروبا يرى الكثير أننا إذا لم نستطع أن نغير مجرى ريح اليمين الشعبوي، فلا أقل من أن نكيف الشراع السياسي تبعاً لهذه الريح. وتمضي الريح المخيفة متسلحة بـ»حقيقة مطلقة»، لا تعدو كونها «أسطورة كبرى» و»لكن أكثر الناس لا يعلمون».