الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٥:٥٨ مساءً

الإسلام المقاتل.. الإسلام الرحيم

مروان الغفوري
الاثنين ، ٠٢ يناير ٢٠١٧ الساعة ٠٧:١٧ مساءً
"أنا نبي الرحمة"، كان رسول الله يقول لأصحابه في المدينة، كما في مسند أحمد. الرحمة والعدل هما الدالتان اللتان شكلتا مركز الجاذبية في الإسلام. ذات مرة النبي رأى طيراً يحوم بالقرب منه فقال لأصحابه "من فجع هذه بولدها؟"، كما يورد البيهقي في دلائل النبوة. وعند الشيخين أن نبياً من الأنبياء نزل تحت شجرة فلدغته نملة، فأمر ببيتها فأحرق، فأوحى إليه الله: فهلا نملة واحدة؟"

كان النبي طيب القلب، وكان الناس يخرجون إلى أطراف المدن لانتظاره، ولم يكن غريباً أن تفعل العرب معه ذلك. مع الأيام سيتصاعد إسلام موازٍ، إسلام يعتقد أن آية السيف نسخت ١١٤ آية حول العفو والصفح، موزعة على ٤٨ سورة. هذه الصورة المحاربة من الإسلام، التي تدعو إلى قتال كل من وصلته دعوة النبي محمد ولم يستجب لها "كتاب الجهاد، ابن تيمية"، دفعت 50٪ من شباب المجتمع الألماني إلى القول إن الإسلام خطر على حياتهم الشخصية، طبقاً لدراسة أجرتها مؤسسة بريلسمان، ٢٠١٥. في الدراسة نفسها قال أكثر من ٧٠٪ من الألمان إن الإسلام خطرٌ على ألمانيا.

الصورة الوحشية القادمة من الشرق الأوسط لا يمكن دمجها في الحضارة المعاصرة، وتقدم نفسها بوصفها الإسلام. فبحسب المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، واشنطن، فقد قتل ٧٥ ألف مسلم في العام ٢٠١٣ في صراع حول الدين أو الحكم. من الصعب تصور وجود أمة خارج المجتمع المسلم مستعدة لاستقبال رسل الإسلام بالأغاني الشعبية، كما كان يحدث. ليس ذلك دون سبب.

سرعان ما انزلق الإسلام إلى مشروعات صغيرة، وصغرى. على يد الجماعات الدينية المتطرفة آض الإسلام إلى كتاب في الحرب. في معالم في الطريق، كما في الإضافات الأخيرة التي أحدثها قطب على كتاب "الظلال"، يسخر المؤلف المعروف من فكرة "المشروع الإسلامي السياسي"، ذاهباً إلى القول إن أي حديث عن مشاريع حضارية، تستند إلى الإسلام، لا بد أن يؤجل لحتى ينجز الإسلام منازلته العسكرية مع باقي العالم، ويستعيد سلطان الله على الأرض. بالنسبة لقطب فكل مجتمعات العالم جاهلية، وتلك بحاجة إلى إخضاعها إلى سلطان "لا إله إلا الله" أولاً، لا إلى إغرائها بالمشاريع الإسلامية. الإخضاع، عند قطب، هو عملية مادية لا بد أن تنجز عبر "تنظيم حركي" لا يعترف بأي نظام سياسي أو ثقافي قائم على وجه الأرض. يبلغ قطب الحدود القصوى مع هذه الفكرة، فيقرر: إن الإسلام والعالم وجودان لا مكان لالتقائهما، وأن الصراع هو طريقهما الوحيد.

يمكن العثور على مادة "الرحمة" في كتب الموروث الديني، من السير إلى التفاسير، بيسر. لكنها رحمة ملتبسة على طريقة القبيلة العربية القديمة: لأهلنا.

في مجموع الفتاوى يحرص ابن تيمية على ملاحظة أدق التفاصيل في الحياة العامة، داعياً إلى صيانة الحقوق بتشدد يبلغ حد التهويل. لكنه، ما إن يدير ظهره إلى باقي العالم، حتى يترك الرحمة جانباً ويضع الجهاد على الطاولة. للداخل الرحمة، وللخارج الجهاد، شريطة أن يمضي الداخل على مقياس ابن تيمية في كل شؤون الحياة، من الخيمياء إلى الفلسفة.

في "فقه الجهاد" يمنح ابن تيمية "الإمام" الحق في الاختيار بين القتل أو البيع أو الاستعباد في حق رجلٍ "كافر" ألقته سفينة إلى أرض المسلمين، أو ضل طريقه إليهم. على الرغم من اعتماد الجماعات الجهادية لابن تيمية كمرجعية عابرة للأزمان إلا أنها تسقط رحمة ابن تيمية المشروطة من مشاريعها، مستبدلة إياها بالسيف داخلياً وخارجياً.

في كتابه "الفريضة الغائبة"، وهو عمل من ٣٢ صفحة، يحيل محمد عبد السلام فرج إلى ابن تيمية ٢٣ مرة. يحصر فرج نسخته من الجهاد في الحرب الداخلية، ضد الأنظمة والمجتمع الجاهلي. بسهولة يستبعد فرج الحرب لتحرير فلسطين قائلاً إن تحريرها من شأنه أن يقوي شوكة الحكومات العربية المرتدة، وتلك خدعة لن تنجر جماعته إليها.

في سجنه قرأ شكري مصطفى كتاب "معالم في الطريق" لقطب، وخرج ليؤسس جماعة التكفير والهجرة. اعتمدت الجماعة في رؤيتها للعالم على فكرة قطب المركزية في كتابه: جاهلية المجتمعات، والعزلة عنها، شعورياً وعملياً.

خاضت "الجماعة" سلسلة معارك انتهت بتلاشيها. لا تزال الأبواب مشرعة، عملياً، لنشوء ظواهر شبيهة، كما حدث مع داعش. تختزل تلك الجماعات الإسلام، والحضارة الإسلامية إجمالاً، في أنشودة حربية. لا تكفي الكتب الدينية لوحدها لإنتاج الظاهرة الجهادية، لكنها تعبد لها الطريق. فالفوضى، والقمع السياسي، وحالات الحروب تخلق الظروف المواتية لتسخين تلك النصوص حد الغليان.

خاطب الصحفي الألماني تودنهوفر "البغدادي" في رسالته الشهيرة، ٢٠١٥، قائلاً إن العهد القديم كان أيضاً مليئاً بالنصوص العنيفة، مما دفع الفيلسوف اليهودي ستيفن بيكر لوصفه بقصيدة حب في العنف.

استدعاء النصوص خارج سياقها التاريخي، تقول رسالة تودنهوفر، هو ما يصنع المشكلة الإرهابية. قبل أن ينهي رسالته قال تودنهوفر للبغدادي: جماعتك لا تمثل خطراً على الغرب، بل على المسلمين.

الإضافات الأخيرة التي أدخلها قطب على كتبه كانت حافلة باستدعاء النصوص خارج سياقها التاريخي. أبعد من ذلك، فقد قام قطب بنقل المجتمع المعاصر إلى الأزمنة الأولى، ووضعه في مكة، قائلاً: إنه هو، لم يتغير، وإن وسائل تغييره لا بد وأن تكون هي نفسها: تكوين النواة الأولى، ثم خوض المعركة عبر آلتين اثنتين: العقيدة، والسيف.

بالرغم من أن قطب كتب في شبابه ديوان الشاطئ المجهول، ورواية أشواك إلا أنه نزع الرحمة من كتبه الأخيرة. في رواية أشواك يمكن رؤية شاب يقبل شفتي فتاة بنهم، وهي حكاية كتبها قطب نفسه. سيدير قطب ظهره للشابين المتعانقين، ولشواطئه المجهولة، ويصرخ: كل ما حولنا جاهلية. بهذه الكلمات الأربع فتح قطب صندوق "باندورا" فخرجت الشياطين، بالإحالة إلى "الأعمال والأيام" لهيسيود. يروي نجيب محفوظ لقاء جمعه بقطب بعد عودة الأخير من أميركا، فيلاحظ أن قطب لم يضحك بعد سماعه مجموعة من النكات. يستنتج محفوظ: لقد رأيتُ في عينيه عيني قاتل.

طبقاً لتقارير صحفية فقد تحدث داعشيون تائبون عن قادة التنظيم، قائلين إنهم متوحشون، حتى إن المرء ليعتقد أن الرحمة لم تعرف إلى قلوبهم طريقاً.

من مبنى صحيفة "تشارلي إيبدو"، بباريس، خرجت صورتان: الأولى رسمت النبي محمد على هيئة شيخ يضع على رأسه قنبلة بدلاً عن العمامة. قوبلت تلك الصورة باستهجان داخل المجتمع الأوروبي. لم تتجاوز كونها عملاً كاريكاتورياً يحاول السخرية من رجل شغل البشرية لقرون. الصورة الثانية: مسلمون يقتحمون الصحيفة ويطلقون النار، ثم يهتفون باسم النبي. لم تنل الصورة الأولى من الإسلام، بل الثانية.

منظر جثث الصحفيين غارقين في الدم، برصاص إسلامي، أرعبت العالم. لكي يثبت المهاجمون أن النبي لم يكن قاتلاً قاموا بقتل الموظفين!

في كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول"، لابن تيمية، وردت كلمة "يقتل" 498 مرة، وكلمة "قتل" 2469 مرة.

العدل والرحمة والتسامح.. هي القيم التي جاء بها النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وكانت مركز الجاذبية داخل الدين. كانت هي ما شكل خطراً على الممالك والإمبراطوريات الهمجية والوحشية. فالسيف العربي لم يكن هو ما تخشاه روما وفارس، بل الصوت العربي القادم من الصحراء منادياً بالحرية والعدل، وصورة النبي الرحيم.