الثلاثاء ، ١٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠١:٤٨ مساءً

مطارق المقاومة في اليمن

بشرى المقطري
الاربعاء ، ٢٢ فبراير ٢٠١٧ الساعة ٠٧:٥٠ صباحاً
يشكل المشهد الفصائلي في اليمن أحد أبرز مظاهر الحرب وأكثرها فداحة؛ إذ كشف واقع الحرب عن خريطة شاسعة للفصائل المسلحة التي قامت على أنقاض الدولة، سواءً التي قوّضت الدولة اليمنية، كجماعة الحوثي، أو التي تدافع عن شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي، تحت لافتة المقاومة الشعبية. مع استطالة أمد الحرب، تغدو هذه القوى المسلحة أكثر قوةً وسطوةً يوما بعد آخر، مستغلة قوتها العسكرية وحالة الانفلات الأمني التي تشهدها البلاد، خصوصا في مدن المواجهات.
على الرغم من الاختلاف السياسي الشديد بين هذه الفصائل وظروف تشكّلها، إلا أن الجليّ تضافرها مجتمعة في إنتاج واقع جديد، يلقي بظلاله على تعقيد مسار الصراع الحالي، إضافة إلى ما تشكله من تهديد حقيقي لحياة المواطنين وتجريف مؤسسات الدولة الهشة؛ ليصبح الصراع بين الفصائل المسلحة، كما يحدث في بعض المدن اليمنية، ملمحاً صريحاً عن دورات العنف المحتملة في المستقبل.
باستثناء المقاومة الشعبية في مدينة مأرب التي لأسباب سياسية واجتماعية طغى عليها اللون الواحد، وهو ما يفسّر عدم وجود صراعات فيما بينها، فإن دورات العنف التي تحتدم، بين حين وآخر، بين بعض فصائل المقاومة الشعبية، تؤكد بديهية أن المقاومة الشعبية ليست نسيجاً سياسياً وعسكرياً منسجماً. وبالتالي، فإن إدراك تعارض أجنداتها السياسية والتناقضات الرئيسية فيما بينها، إضافة إلى حدّة الاستقطابات الخارجية، يسهم في فهمنا حالات الصدام بينها، وشكل الصراع في يمن بعد الحرب، وكذا القوى العسكرية المرشحة لقيادة الصراع في المستقبل.
منذ اندلاع الحرب في اليمن، تشكلت في المدن اليمنية مقاومة شعبية، نشأت باعتبارها ردة فعل
"القتال اليومي بين الفصائل التي تدّعي تمثيل المقاومة والقانون تحوّل من صراعٍ آني تؤجّجه ظروف الحرب إلى مشهد متكرّر" اجتماعية على السلطة القاهرة التي سعت جماعة الحوثي وصالح إلى فرضها على المواطنين. تميّزت بدايات نشأة المقاومة بالعفوية، فعدا ما يخص الإجماع على مناهضتها مليشيات الحوثي وعلي عبدالله صالح، لم تتبنَ المقاومة المرجعيات السياسية للسلطة الشرعية، كما لم تطمح إلى استحقاقات سياسية من فعل المقاومة. "مقاومة أبناء الحواري"، وهي المقاومة الشعبية التي انطلقت في حواري مدينة عدن في بداية الحرب، هي الشكل الأكثر عفوية وطبيعية لهذه المقاومة، إذ لم تكن مسيسةً في طابعها العام، كما كان أغلب المنخرطين فيها مدنيين حملوا السلاح لأول مرة، إلا أنه سرعان ما تمت إزاحتها وإحلال قوى سياسية احتكرت مسمّى المقاومة الجنوبية، وتميزت بأجنداتها السياسية المتضاربة، بدءاً من إعلانها الدفاع عن الشرعية، وتبنّيها خيار الاستقلال، في الوقت نفسه، وتفاقم حالة التضارب بخضوعها للإملاءات الإماراتية. على الرغم من إعلان حلها بعد تحرير عدن، ظلت المقاومة الجنوبية قوى مستقلة عن السلطة الشرعية، وطغى عليها تبنيها الخيارات الإماراتية، إلى حد دخولها في صراع مع قوات الشرعية، كما حدث أخيرا في المعارك المحتدمة بين قوات الحماية الرئاسية والحزام الأمني في مطار عدن.
خلافاً للمقاومة الشعبية في مدينة عدن، كانت المقاومة الشعبية في تعز مسيسة منذ تشكيلها، ففي حين تبنت غالبية القوى السياسية خيار المقاومة، ودعم نواة الجيش الوطني التابع للرئيس هادي، ودفعت مقاتليها إلى الانخراط في الجيش الوطني، تبنّى حزب التجمع اليمني للإصلاح (الإخوان المسلمين في اليمن) خيار المقاومة والدفاع عن الشرعية، لكن بتشكيل مقاومة مسلحة منفصلة عن الجيش الوطني، عبر تشكيله فصائل مسلحة تتبعه رسمياً، وأخرى مدعومة من عسكريين وواجهات اجتماعية منتمية للحزب، وتتحرّك وفق إملاءاته السياسية، وغلب على أداء هذه الفصائل سعيها لاحتكار تمثيل المقاومة الشعبية.
عبر توظيف فصائل المقاومة التابعة له رسمياً، والفصائل التي يقودها رموزه الاجتماعية، استطاع حزب الإصلاح في تكريس حضوره الشعبي داخل المدينة، مستفيداً من الدعم العسكري الذي يقدّمه التحالف العربي للمقاومة لتقوية فصائله المسلحة وبناء ذراع عسكرية قوية له في المدينة. مستثمراً واقع الحرب في مدينة تعز، نجح حزب الإصلاح في امتلاك قوة عسكرية، يمكنه الاعتماد عليها لردع الفصائل العسكرية الأخرى المنخرطة في المقاومة، خصوصا المحسوبة على التيارات السلفية، ويحرص على الحفاظ على قوته العسكرية سليمةً، من أجل معارك احتكار التمثيل السياسي للمقاومة، وفرض أجنداته السياسية بعد الحرب؛ وهو ما جعل فصائل السلفية المنخرطة في المقاومة تضيق بسياسة حزب الإصلاح، إلى حد مناوأته، وتحوّل ذلك إلى صدام يومي بين الطرفين.
استطالة أمد الحرب في مدينة تعز وحدّة العداء الإماراتي لحزب الإصلاح، كان له الأثر الأكبر في تأجيج الصراع بين الفصائل التابعة للإصلاح والفصائل السلفية، فلم يعد صراعها في إطار التنافس السياسي والاستعراض العسكري في المدينة، بل اتخذ منحى الصراع على تشكيل
"كل المؤشرات تؤكد أن المعركة المفصلية ستكون في مدينة تعز" خريطة يمن ما بعد الحرب. بإدراكه تنامي الحضور السياسي والعسكري للسلفيين، قوة فتية كرّستها الحرب في مدينة تعز، وفي عموم اليمن، وردّاً على العداء الإماراتي المعلن له، وجّه حزب الإصلاح أولوياته لضرب القوة الصاعدة للسلفيين، كونهم منافساً حقيقياً على قاعدته الشعبية من المتدينين، إضافة إلى مخاطر تنامي قوة سياسية مدعومة من الإمارات. في المقابل، قاومت الفصائل السلفية أجندات حزب الإصلاح في المدينة، مدركةً بدورها خطورة الصراع مع حزب الإصلاح، كرّست قوتها لاستقطاب مزيد من الأنصار، متجنبةً الاحتكاك مع المجتمع المدني، أو الدخول في مواجهات مع قوى سياسية أخرى.
كانت المعركة المحتدمة بين فصائل حزب الإصلاح والسلفيين متوقعةً في سياق التنافس الحاد بينهما، حيث شهدت مدن عديدة جولات عنفٍ بين الطرفين، كما يحدث في مدينة عدن، وإن كان بصيغ سياسية مختلفة. إلا أن كل المؤشرات تؤكد أن المعركة المفصلية ستكون في مدينة تعز. بدأت المواجهات بين الطرفين مبكرة جداً، ففيما لا زالت تعيش واقع الحرب والحصار المفروض من مليشيات الحوثي وصالح، تحولت المدينة إلى مسرح عسكري وسياسي لصراع الإرادات بين فصائل الإصلاح وفصائل السلفيين، وارتكز التنافس الأولي بينهما في مراهنة كلا الطرفين على الجيش التابع لهادي، والتنافس على اختراقه عبر الزج بمقاتليهم في قوام الجيش.
كانت المواجهة الفعلية بين الإصلاح والسلفيين عبر سعيهما الدؤوب إلى وراثة مؤسسات الدولة في مدينة تعز وتمثيل سيادة القانون. وبسبب ذلك، تشهد المدينة حالياً مواجهاتٍ عسكرية متكرّرة بين الجماعة السلفية، ممثلة بجماعة أبو العباس، ومليشيا "غزوان المخلافي" المدعوم من حزب الإصلاح. بدأت هذه المواجهات قبل أشهر حين حاول "أبو العباس" القبض على "غزوان المخلافي" وآخرين يتبعونه، على خلفية ارتكابه أعمال نهب بحق مواطنين، والاعتداء على مقاتلين تابعين للجماعة السلفية، لكن القائد السلفي اصطدم بنفوذ "الإصلاح"، فعلى الرغم من تدخل رئيس الجهورية، وبعض القوى السياسية، لحل الخلاف بين الطرفين، اتخذت الاشتباكات بين الطرفين طابعاً أكثر عنفاً، وتوسعت بفعل الزج بمؤسسات الدولة واستخدامها في هذا الصراع.
في ظل تقاعس السلطات المحلية في مدينة تعز عن القيام بواجباتها حيال حماية أرواح المواطنين وممتلكاتهم، بما في ذلك كبح جماح الفصائل المسلحة في المدينة، فإن القتال اليومي بين هذه الفصائل التي تدّعي تمثيل المقاومة والقانون، تحوّل من صراعٍ آني تؤجّجه ظروف الحرب إلى مشهد متكرّر لرعبٍ تمارسه فصائل خارجة عن السيطرة في حق المواطنين، رعب ينبئ بتحدياتٍ صعبة في يمن ما بعد الحرب.
*العربي الجديد