الثلاثاء ، ٢٣ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١٠:٠٥ صباحاً

… حتى يوسي بيلين قالها!…

محمد كريشان
الاربعاء ، ٠٨ مارس ٢٠١٧ الساعة ١٠:٢٩ مساءً
تغيرت ملامحه قليلا، غزا الشيب شعره كله، لم يلبس نظارته الطبية المعروفة لكنه ظل محافظا على وسامته وكذلك طريقته الرصينة الواثقة في الحديث. الأهم من كل ذلك أنه بات «شرسا» أكثر من السابق في طروحاته المختلفة عندما يتحدث عن إسرائيل وصراعها مع الفلسطينيين.

يوسي بيلين الوزير الإسرائيلي السابق وأحد أبرز مهندسي اتفاق أوسلو المعلن في أيلول/سبتمبر 1993، أطل أول أمس عبر التلفزيون الإسرائيلي باللغة العربية ليقول كلاما لم يسبق ربما أن قاله بهذه الوضوح. قال إنه «يتوجب على السلطة الفلسطينية وقيادتها أن تستقيل لأنّ وجودها يخدم سلطات الاحتلال الإسرائيلي ويدعم استمرارها».

لم يرمها هكذا بل شرح وفسر، سئل تحديدا عن اتفاق أوسلو ومدى نجاحه بعد مرور أكثر من 23 عاما على توقيعه فقال «أنا الذي ابتكرت ذلك الاتفاق، وأنا أقول إنني أدعم حلّ السلطة الفلسطينية واستقالة القيادة الفلسطينية وإعادة المفاتيح لإسرائيل».

وأضاف «السلطة الفلسطينية مريحة لليمين الإسرائيلي، حيث يتم التعامل معها بموجب مبدأ (إدارة الصراع)، وتقوم بالتنسيق أمنيا مع إسرائيل دون أن يكلف ذلك تل أبيب أي شيء»، معتبرا أنه كان من الأنسب أن يقال للإسرائيليين «إذا أردتم الاحتلال فهنيئا لكم، لكننا لن نلعب هذه اللعبة معكم» ذلك أن «الذي يتمسك باتفاق أوسلو هو اليمين الإسرائيلي من نتنياهو وصولا إلى بينيت لأنه الوضع الأكثر أريحية لهم، حيث أنّ العالم أجمع يمول لهم الاحتلال بالإضافة إلى وجود سلطة فلسطينية مع ميزانية دولية ووجود اتفاقيات وتنسيق أمني مع السلطة الفلسطينية، لذا لن يكون هناك وضع أفضل من ذلك».
كان هذا السياسي الذي قارب السبعين الآن من القيادات الصاعدة في حزب العمل وكان يحلو للبعض أن يعتبره الابن الروحي لشمعون بيريس، وإن لم يكن بلؤمه ودهائه، كان عنصرا رئيسيا في كل المفاوضات والاتفاقات التي أعقبت اتفاق أوسلو، دخل الكنيست نائبا وتقلد مناصب حكومية عدة طوال التسعينات وإلى غاية 2008، قاد فيما بعد حزب «ميرتس» اليساري قبل أن يتراجع هذا الحزب كثيرا ويتقزم كل اليسار الإسرائيلي في السنوات الماضية.

لكل ذلك لم يكن من الهين أبدا أن تسمع هذا الرجل، وهو من حمائم الحمائم، إذا صح التعبير، يقول في هذه المقابلة أنه «كان يتوجب أن ينتهي العمل باتفاقيات أوسلو بعد مرور خمسة أعوام من الإتفاق، وذلك في الرابع من أيار/مايو 1999، على أن يتم التوصل لاتفاق دائم بعد ذلك بيوم واحد»، متهما رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو بأنه «عمل كل ما بوسعه من أجل عدم التوصل لاتفاق دائم»، مضيفا «حينها كان يجب حل السلطة الفلسطينية حسب رأيي».

العبرة من كل ما قاله بيلين هو لماذا وصل من كان الطرف المقابل للجانب الفلسطيني في مسار التسوية عند انطلاقه إلى مثل هذه القناعة في حين لم يصل إليها من يكتوي يوميا بنارها، أي السلطة الفلسطينية، التي لا الشعب الفلسطيني راض بأدائها ولا الحكومة الإسرائيلية المتطرفة طبعا، فجمعت في النهاية غضب من كانا على طرفي نقيض، في وقت لا توجد فيه أية آفاق واعدة لانفراجة معينة تجعلها تتحمل كل هذا الوضع الذي لم يجلب لها سوى التشويه والشتائم وحتى التخوين.

السلطة في وضع لا تحسد عليه أبدا، وليس من حق كثيرين المزايدة عليها وهم لا يفعلون شيئا لا للشعب ولا للقضية، كما أنه ليس مناسبا بمن يضع رجلا على رجل بعيدا معاناة الاحتلال أن ينظـّــر على هذه السلطة كيف عليها أن تتصرف. هذا كله صحــــــيح… ولكن هل يمكن أن يصل الأمر إلى حد رفع اليد بالكامل عن الاهتمام بما شغل ساحتنا أكثر من نصف قرن والتصرف كأن أمر هذه القضية لم يعد يعنينا في شيء وأن على كل واحد أن يقلع شوكه بيديه؟!!

بين المزايدة ونفض اليد هناك طريق آخر بلا شك وهو النصح الأمين المخلص لأن لا نتيجة للكفر بكل ما له علاقة بهذه القضية سوى تأبيد الاحتلال من جهة وفتح المجال لقوى دينية موغلة في التطرف للدخول على الخط فلن تفعل سوى مزيد تعفين ما هو متعفن أصلا. لا يمكن للسلطة الفلسطينية أن تظل هكذا رهينة ما تخطط له حكومة يمينية متطرفة وسياسة أمريكية منحازة لم تفعل شيئا، ولن تفعل، وتراجع عربي بيــّن رسميا وشعبيا، وتأييد أوروبي جدير بالاحترام لكنه غير فعال، حتى وإن كان هناك وسط كل هذا بعض التقدم على صعيد الأمم المتحدة والهيئات الدولية والرأي العام العالمي.

لا بد من حركة ترج العالم بقوة، لا مفر أحيانا من قلب الطاولة على الجميع، الوقت ما زال يسمح رغم كل هذا التأخير، لم يعد بيد السلطة الفلسطينية سوى هذا. لم نكن بحاجة ليوسي بيلين حتى يقولها.


"القدس العربي"

٭ كاتب وإعلامي تونسي