الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ١٠:٢٨ صباحاً

صـناعـة الـرحـيـل

محمد بشير
الخميس ، ٠١ يناير ١٩٧٠ الساعة ٠٣:٠٠ صباحاً
ثلاثة من زعماء العرب المعاصرين رحلوا بثلاث كيفيات مختلفة (والبقية في الطريق) كلها بؤسٌ وألمٌ وحسرة وسرقة لمقدرات الأمة بالمليارات ، وفضائح لا تغتفر لصاحبها ، فماذا لو تذكر من بقي ما أوصى به النبي محمد صلى الله عليه وسلم حين قال : (اكثروا ذكر هاذم اللذات ) ففيه الدواء لقسوة القلب ..

لنتذكر هؤلاء الرجال الذين أكثروا ذكر الرحيل الأبدي عن هذه الدنيا بالموت فأعدوا له عدة منهم :

أمير المؤذنين ورئيس دائرة الإعلام الإسلامية الأولى بلال بن رباح رضي الله عنه : أول من رفع الأذان بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده الذي شيد صرحه بالمدينة .

لقد استمر في وظيفته الإعلامية يرفع الأذان حوالي عشر سنوات ، لكن بعد وفاة حبيبه النبي محمد صلى الله عليه وسلم استعجم الأذان على لسانه ، فلما أراد أن يؤذن الظهر يوم وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وجاء على : ( اشهد أن محمدا رسول الله ) خنقته العبرة فبكى وأبكى ببكائه كل من كان يسمعه من أهل المدينة ، فلم يطق البقاء بالمدينة بعدها ، فقدَّم استقالته من عمله .

أتى الصديق رضي الله عنه فقال له : يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أفضل عمل المؤمن الجهاد في سبيل الله ، قال الصديق رضي الله عنه فماذا تريد يا بلال ؟

قال بلال رضي الله عنه : أردت المرابطة في سبيل الله حتى أموت .

قال الصديق رضي الله عنه : ومن يؤذن لنا ؟

قال بلال رضي الله عنه وعيناه تفيض من الدمع : إني لا أؤذن لأحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال الصديق رضي الله عنه : بل ابق وأذن لنا يا بلال (هكذا أمر من الخليفة ) .

بلال رضي الله عنه : إن كنت عتقتني لأكون لك فليكن ما تريد ! وإن كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له .

قال الصديق رضي الله عنه وقد أجهشت عيناه بالبكاء : بل أعتقتُ لله يا بلال .

فسافر بلال رضي الله عنه إلى الشام غازياً في سبيل الله وبقي مرابطاً مجاهداً في سبيل الله هناك ، وبعد سنين رأى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له : ما هذا الجفا يا بلال ؟ أما لك أن تزورنا ؟ فانتبه حزيناً وركب ناقته متوجهاً إلى المدينة ، فزار مسجدها ، وأقبل عليه الحسن والحسين يناشدانه وهو يقبلهما ويبكي فقالا له : نشتهي منك هدية أن تؤذن لنا ، فرقى سطح المسجد كعادته فلما أراد أن يؤذن وجاء على : أشهد أن محمدا رسول الله خنقته العبرة حتى ارتجت المدينة وخرج الرجال والنساء من بيوتهن فما رؤى يوم أكثر بكاء من ذلك اليوم ؟

وها هو أمير الإعلام ورئيس الدائرة الإعلامية المؤذن الأول قد أدركه ما يدرك البشر غيره جاءه الموت يوم الرحيل الذي لا يفلت منه أحد ، رقد على فراش الوفاة وجلست بجواره زوجته تبكي وهو يقول : غداً ألقى الأحبة محمد وصحبه .. وفارق الدنيا ورحل كما رحل غيره فمن منا اليوم يُعد لرحيل مباركٍ كهذا ؟!؟

والخليفة عمر بن عبد العزيز غفر الله له : أعد لرحيله عدته وصنع ليوم رحيله ما يلزم لا كما يفعل حكام اليوم ولكن منذ تولى الخلافة بنا مجداً لاستعداد ته النفسية للتدرج في معالي الأمور ، فقال لمولاه مزاحم غفر الله لهما : إن ليَّ نفساً تواقة ، لم تتق إلى منزلة إلا تاقت إلى ما هي أرفع منها ، حتى بلغت اليوم المنزلة التي لا بعدها منزلة (خليفة المسلمين وحاكم مشارق الأرض ومغاربها ) وإنها قد تاقت إلى الجنة ، وكانت قولته المشهورة حين تولى الخلافة : من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلاّ فلا يقربنا :
• يرفه إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها .
• ويعيننا على الخير .
• ويدلنا من الخير ما لا نهتدي إليه .
• و لايغتابن أحدا .
• ولا يعترض فيما لا يعنيه .

وكان أول ما بدأ به بعد اختياره خليفة أن : رفض مظاهر الأبهة ، فردَّ المراكب التي أعدت لركوبه والسجاد الذي فرش ليطأه من المسجد إلى القصر إلى بيت المال ، ووضع حلي زوجته فاطمة غفر الله لها والتي كساها إياها أبوها الخليفة قبله عبد الملك بن مروان في بيت المال ، وعزل بعض الولاة الجائرين.

وكتب في أحد مراسيمه أما بعد : فأيما أحد قدم إلينا في ردِّ مظلمة أو أمرٍ يصلح الله به خاصاً أو عاما من أمر الدين فله ما بين مائة دينار إلى ثلاثمائة دينار بقدر ما يرى أهل الحسبة ، وبُعد سفره ، لعل الله يحيي به حقاً أو يميت باطلا ، أو يفتح به من ورائه خيرا.

رحل الخليفة عمر بن عبد العزيز مجدد القرن الهجري الأول سنة 101هـ في دير سمعان ولم يتجاوز من العمر 39سنة لكنه كان على يقين من قول الحق تبارك وتعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص83 ]