الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١١:٤٣ مساءً

الإسلام والأمن والسلام

إبراهيم القيسي
الاثنين ، ١٤ ابريل ٢٠١٤ الساعة ٠٥:٤٠ مساءً
كلمة السلام في الإسلام تمتاز بعراقة تاريخية ودينية فهي لم تأت من فراغ مبذوذ ولم تترق عن عفوية باهتة ولا خمول واهن بل تدرجت في سلم الدلالة المصطلحية كتدرج القمر من هلال إلى بدر وامتطت صهوة الدلالة القرآنية عن أمم فظهرت مثل كوكب دري توقد من دلالة القرآن المشرقة وتستضيء بجلالة النسب وفخامة المنبت فهي تجمع بين القدسية والعظمة والمبدأ والدلالة تسبح في بحور الجلالة الإلهية وتشرق من شموس الشريعة المحمدية أصلها ثابت وفرعها في السماء فهي ذات مدلول إسلامي شامل واسم عظيم من أسماء الله الحسنى وصفة جليلة من صفاته قال تعالى: " الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن الميهمن العزيز الجبار المتكبر ... " الحشر آية (23) وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " السلام اسم من أسماء الله وضعه الله في الأرض فافشوه بينكم فإن الرجل المسلم إذا مر بقوم فسلم عليهم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة بتذكيره إياهم السلام فإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم وأطيب " الجامع الصحيح . فقد حازت هذه الكلمة من الشرف ذروته ومن العلو هامته ومن الكرامة واسطة العقد لم تحز لفظة أخرى من مفردات اللغة مكانتها إلا من شابهتها في المنبت ونافستها في شرف النسب والمحتد فالكلمة ذات أود ومنعة تتجلى بمدلول إسلامي ممتاز ومبدأ تشريعي رائع فهي ليست بدعا في المدلولات ولا من الأعجمي المعرب فقد تناءت عن وحشي الكلام وعن التهجين المنافي للأصالة والعراقة وعن التواضع والاستحداث إنها روح الإسلام ومبدأه السامي وتحيته الخالدة " إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم فإذا أراد أن يقوم فليسلم فليست الأولى بأحق من الآخرة " (صحيح أبي داود) وكذلك هي تحية أهل الجنة في الآخرة " أولئك يجوزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما " الفرقان آية (75) وهي شعار أهل الجنة "... لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا " مريم آية (62) ، " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما " الواقعة آية (25،26) وهي التحية الجليلة التي يقدمها المسلم بين يديه في حال لقائه بخالقه في الصلاة فيسلم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى الأمة الإسلامية من عباد الله الصالحين ...كان عمر رضي الله عنه يعلم الناس التشهد في الصلاة يقول : " قولوا التحيات لله الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله " الموطأ... وهي الدلالة الشاملة على دين الإسلام وصراطه المستقيم التي عبر عنها المولى عز وجل بسبل السلام قال تعالى " يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم " المائدة آية (16) وهي شعار عباد الرحمن عند خطاب الجاهلين " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " الفرقان آية 63 وهي اسم الجنة التي وعد الله عباده الصالحين قال تعالى " لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم ... " الأنعام آية (127) وقال تعالى " ... والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ... " يونس آية (25) وهي دعوة الله لنبيه يحيى قال تعالى " ... وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا " مريم (15) وهي دعوة عيسى أيضا لنفسه قال تعالى " والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا " مريم (23) إنها مبدأ الأمن والسكينة وجوهر الحب والإخاء ونبع العقيدة وجدول الهداية وحقل الحرية وسنابل العدالة وإطار الإسلام المتميز بالرحمة والعطف والحنان وربيعه المزهر بالوحدانية والخضوع وضميره المرهف بالشعور بمعاناة الآخرين فقد وظفت هذه الكلمة بدلالاتها العريقة لتحل تلك المنزلة العظيمة التي بوأتها شريعة الإسلام الخالدة .

ولجمال هذه الكلمة ورشاقتها وما تتصف به من عذوبة في اللفظ وسلاسة في النطق إضافة إلى ما تحويه من لطافة أرق من النسيم وألطف من ملمس الزهرات في الروض الأنيق فقد جعلها الله شعارا للتحية بين أبناء الإسلام " وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ..." النساء آية 86 فهي تحمل الروح الحقيقية للمجتمع المسلم فمشروعيتها تنبثق من دلالتها على السلم والأمن فكل مسلم مسئول عن تحقيق هذا المبدأ العظيم في حياة كل المسلمين فالسلام شعيرة مشروعة مثل كل الشعائر الإسلامية وهي من حقوق المسلم العامة " حق المسلم على المسلم ست : إذا لقيته فسلم عليه وإذا دعاك فأجبه وإذا استنصحك فانصح له وإذا عطس فحمد الله فشمته وإذا مرض فعده وإذا مات فاتبعه " الجامع الصحيح . وقد قرنها الإسلام بأختين كريمتين تترادف معها بالدعاء بالسلام والرحمة والبركة لتزيد في المبنى والمعنى فيوضا ربانية تتغشى بسحب الرحمة والبركة والسلام " من قال السلام عليكم كتبت له عشر حسنات ومن قال السلام عليكم ورحمة الله كتبت له عشرون حسنة ومن قال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتبت له ثلاثون حسنة " الطبراني . فكل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يتبادلون هذه التحية ويتخذونها شعارا للأمن والسلام فتظلهم بظلالها الوارفة وتمطرهم بغيوثها المسجمة وتخصب بالحب والسلامة فتحلو الحياة وتنقشع ظلمات الإرهاب ويموت الأذى وتضمر عضلات الشر فيعم السلام الربوع الخضراء فتندى خصوبة بالحق وتشرق النفوس بصفاء الحب والإخاء وتتلاحم قوى الأفراد والمجتمعات فتصير كالبناء الواحد قوة وكالجسد الواحد حيوية وعظمة فتصير الأمة كالجبال شموخا وكالبحار عظمة وكالأقمار شرفا وكالسماء رحابة وكالنجوم مواقعا وعلوا على الآخرين فلا يطمع في النيل منهم مستعمر ولا يبطش بهم وحش ولا تفرقهم نوائب ولاتريبهم ظنون فهم مطالبون بإلقاء هذه التحية وتطبيقاتها الروحية لفظا ومضمونا في كل الحالات والظروف التي تتفارق فيها الأجساد عن بعضها البعض حتى ولو حجبت بأصل شجرة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال " كنا إذا كنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتفرق بيننا شجرة فإذا التقينا يسلم بعضنا على بعض " الطبراني . والبادئ بالسلام له منزلة الأفضلية عند الله " أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام " أبو داود . ولأهمية السلام ومثوبته عند الله كان عبد الله بن عمر يقول : " إنما نغدو من أجل السلام نسلم على من لقينا " الموطأ وذلك أثناء خروجه إلى السوق لأن المسلمين مطالبون بإلقاء التحية لإشاعة الأمن والاستقرار وتثبيت دعائم الحب والإخاء وزرع فسائل الطمأنينة والسكينة في قلوب المؤمنين لأنه في حال امتناع التحية من البعض فيه دلالة على عكس مدلول السلام فيولد انعدام التحية التقاطع والتدابر والأحقاد فتمرض القلوب وتعبس الوجوه فينمو التوحش فيعمل على فوران القلوب فتتباغض فينقلب السلام إلى إرهاب والأمن إلى خوف .

فالإسلام قد رسم الطريق أمام المجتمع المسلم وأرسى دعائم الأمن والسلام فقد جعل بين الإيمان والجنة رابطة الحب وبين الحب والإيمان رابطة السلام " لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم " مسلم . فالسلام هو أساس الخير كله من إيمان وحب وما يترتب على ذلك من دخول الجنة " يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام " الترمذي. وعن البراء رضي الله عنه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " أفشوا السلام تسلموا " ابن حبان . وسئل ـ صلى الله عليه ـ أي الإسلام خير ؟ قال : تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " البخاري . فالروابط المتينة بين إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام كلها تؤدي إلى هدف واحد وهو الأمن فمن أفشيت له السلام أمن ومن أطعمته من زادك أمن والصلاة هي جامعة الخير تنهى عن الفحشاء والمنكر وبهذا تسير تلك المقومات متعاضدة لبناء الحياة وبعث روح الثقة والحب بين أفراد المجتمع المسلم .

فالسلام له طبيعة خلاقة وقدرة خارقة لأنه مرتبط بالخالق سبحانه فهو مقدر الأشياء وخالقها فالخير والشر يستطردان بمقدوره فقوة الشر كامنة في القوة التي خلقها الله فيه وفي حال سلب تلك القوة من عنصر الشر فإنها لا تعمل فقد جعل الله النار على إبراهيم الخليل بردا وسلاما " قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم " الأنبياء آية (69) وجعل بطن الحوت حفظا ورعاية لنبي الله يونس وجعل البحر طريقا وسبيلا لنجاة موسى وقومه وأبطل كيد من أراد قتل عيسى عليه السلام وخلصه الله من القتل ورفعه إليه وجعل السكين لا تعمل الذبح في إسماعيل وفداه بذبح عظيم وجعل السحر لا يعمل في عصاة موسى عليه السلام وانقلب السحر على الساحر وأبطل كيد زليخا والنسوة في إغواء يوسف وأعمى أبصار فرسان قريش وأبطل كيدهم ليلة هجرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

فالسلام مبدأ إسلامي يستوعب كل مبادئ الإسلام فهو السائلة الكبرى التي تجتمع إليها جداول الشراج وهو خيط العقد الذي ينتظم جواهر المبادئ الخالدة وهو القاعدة الشرعية الأصيلة للإسلام لا يخرج عنها إلى الحرب إلا في حال الضرورات الملحة لتأديب الطغاة والمستبدين ونشر دعوة الإسلام وتوطيد قاعدة السلم حتى لا يعبث بها الوحوش والإرهابيون فالسلم هو أساس شجرة الإسلام الباسقة تتفرع من أصله كل الفروع الأخرى من حب وعطف وأمن وسكينة ومودة ورحمة ورفق وإحسان وأخوة وتلاحم وتعاون وتكافل وإيثار وكرم ... الخ حيث تنمو هذه الفروع ضاربة بأفنانها الباسقة في عنان السماء تزهر بالخير وتثمر بقوة العقيدة وهيبة الشخصية وتنمية الاقتصاد وسيادة الأمن والاستقرار وتجسيد أواصر التلاحم والتآزر .

فحينما نسبح في بحر السلام ونطير في أفقه ونستنشق أريجه الفواح ونشر أزهاره البهيجة تتملكنا روعته الخلاقة وتذهلنا واحته الغناء وظلاله الباردة وحقوله المثمرة نقف هناك بإعجاب أمام العطاء المتفاضل والخير المتعاظم بشلالات الأمن وجداول الاستقرار هناك تعلو سحب الفضائل فتمطر كل الصحاري القاحلة بوابل الغيث الهاطل فتكتسي النفوس بربيع الحياة المخضل وتندى القلوب بأنوار العقيدة فيمتلأ الرحب بفيوض الهناء الغائم وبزروع الطمأنينة الباردة في ظل هذه الظروف الحية تتشابك الأيدي وتصفو القلوب وتؤوب النفوس إلى روابط الحب ووشائج الأخوة فتحمي ذلك العرين من كل قراصنة التطفل ومن كل جحافل الغزاة .

هنا يفنى الغدر ويموت الشر ويتضاءل الضر هنا تخفت الأنانيات الجشعة ويختفي الحرص الذميم ويهلك الإرهاب وتنطفئ نيران الشر وتنحسر بؤر الحقد وجبال التقاطع وتذوب الغيبة والنميمة وتتلاشى السخرية وتخبو بوارق الطمع كل الأخاديد إلى انطفاء وكل البراكين إلى همود ... هنا نسمع تغاريد العصافير وشجى القمريات وغناء العندليب وسيمفونية الحب وربابة الهناء الكل يعزف إيقاعات السلام تتردد في رحاب الحياة فتطمئن النفوس ويفر الخوف وتغمر السعادة وتعم الأفراح في ظلال الحب المنبثق من أجواء الأمن وجداول السلام .