الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٨:٠٦ مساءً

الشعب اليمني ... في مأساة واق الواق

إبراهيم القيسي
الاربعاء ، ٢٨ مايو ٢٠١٤ الساعة ١٠:٤٠ صباحاً
ظل المواطن اليمني يعيش في زوايا مظلمة بين أكواخ الفقر وبراكين المعاناة يجتر آلامه وحيدا في تراجيدية مؤلمة ويقتص أثر المساغب خطوة خطوة ويتجرع ألم الحرمان وضراوة الجوع على مدى تاريخ متطاول كم ظل يقفو أثر الحاجة ويتكفف بيوت الظلمة وحصون المستبدين فيرجع بخيبة ألم وبخاطر مكسور وجرح عميق يظل باكيا في أودية المحل تتغول به الدكتاتورية وتضلله غابات الكذب وسراب السهول المكفهرة ... فالحرج النفسي الملتهب من ردة الفعل ولد لديه سوداوية تاريخية تؤرث بالانتقال من جيل إلى جيل فالهمج يحتلون مواقع السيادة ويتحكمون بمنابع الثروات قد عملوا على سقوط العدالة وغروب الحرية وتلاعبوا بالحقوق فتضخمت كروشهم بسحت خبيث وامتصوا دماء المواطن في عالم يتعمق مع غرابة المنفى ومرارة التجربة في متاهة وطن واق الواق ذلك الوطن المشهور بالحرائق واكتناز الآهات وتغول السادة وجشع التجار ونفاق أصحاب المصالح .

إن تاريخ الوطن اليمني الموغل في الدكتاتورية يعطي مؤشرات دلالية تبنى عليها دراسات تأصيلية تؤرخ للاستبداد السياسي الذي تسرطن في خلايا هذا الوطن المغلوب فالجدير بالذكر أن الشعب اليمني مغرم بالصنمية وبناء السلطات الدكتاتورية قديما وحديثا وظلت السلطنات والمشيخات المتعددة تنهش في حقوق هذا الشعب وتمتص الدماء الزكية وتستنفد جهود العمال في مزارع ومصانع السادة الإقطاعيين من العظماء والتجار فقد تركز الغنى والبطر في البيوتات الكبيرة الأمر الذي ولد التبعية والمسخ في أفراد الشعب اليمني فراح يجتر القهر سنينا بعد سنين وظل يتداوله الظلمة واحدا بعد آخر فالناظر للتاريخ اليمني عن كثب يجد هذه الحقيقة ماثلة للعيان متجسدة في كل فصل من فصول التاريخ اليمني الطويل تنبئ عن ظاهرة تاريخية مستمرة ومتجددة مع تتالي الحقب وتلاحق الشهور والأيام .

فحينما نمت العنصرية في شمال اليمن وبنت دكتاتوريتها على أفضلية العنصر وجعلت من الشعب اليمني قطيعا ساجدا يسبح بحمد السادة بكرة وعشيا فقد تشوهت أفواههم من تقبيل الركب السادة وتقوست ظهورهم من الانحناء والخنوع للأصنام البشرية صباحا ومساء... كان بالمقابل تبنى هناك السلطنات في شرق اليمن وجنوبه وفي سهوله الغربية وتمتد مع امتداد اليمن طولا وعرضا ولم تكن هذه السلطنات والمشيخات بأقل دكتاتورية من دكتاتورية السادة بل اختلط الحابل بالنابل وتكونت عجينة اجتماعية من عنصرية سنية تكونت من السادة المتصوفة الذين قدسهم الشعب اليمني طيلة قرون متعاقبة فقد توثقت صلتهم بالسلاطين والمشيخات فكانوا من علماء السوء الذين سكتوا عن الظلم مقابل استحقاقهم المادي ومراكزهم الاجتماعية فكانوا نعم العون لأولئك السلاطين والمشايخ الذين استبدوا بالشعب اليمني وساموه سوء العذاب إلا من رحم ربك وقليل ماهم .

لقد أصبح الشعب اليمني في ظل هؤلاء السلاطين قطيعا يساق في طريق الذلة والحقارة يحسو آلام القهر ويجتر مساغب الفقر ويعيش في شبح الذل يسبح في بحور السخرة والاستعمال تسلب حقوقه وتنتهك أعراضه وتمسخ ذاته فيعيش بحقارته وإذلاله ويسعد بمزاولتها كطقس عام أصبح من مسلمات الحياة وكل من يحاول الاحتجاج أو الشكوى من جور الظلم وسطو السلطان فعقابه التصفية الجسدية أو الحبس في كهوف مظلمة تحت الأرض وذلك جزاء تطاوله على سادته وكبرائه فقد نمت ثقافة الاستسلام والاعتراف بحق السادة والسلاطين كمسلمة من مسلمات الحياة غرزت في ضمير الشعب اليمني فتأصلت مع الزمن في حنايا الروح فكان من الأمر الغريب نكرانها فالإقطاعي السيد أوالسلطان المستبد روضا الشعب اليمني على القبول بسلطتهما المطلقة كأمر واقع ... يجب على الشعب اليمني أن يقدم بين أيديهما القربان المقدس وحرق البخور وتقديم طقوس الطاعة والولاء والمحظوظ منهم من يقدم له السلطان أو السيد يده ليقبلها ويضعها على رأسه كعرفان بالجميل الذي خص به ذلك الصنم من بين الناس ... فالروتين الممل في مزاولة الطقوس والعادات أرسى قيما خاطئة صارت مع الزمن وطول المدة من المعروف الذي لا ينكر ... الأمر الذي أسقط الشعب اليمني في براثن الذل وجحيم العبودية .

فالعصور السياسية التي مر بها المواطن اليمني كانت مليئة بالدكتاتورية والعنف والصراع على السلطة وظل المواطن اليمني المحروم يقدم عرضه وماله ونفسه دفاعا عن السادة وعن السلاطين وشيوخ القبيلة جعل من نفسه جنديا مخلصا يكافح ويناضل من أجل حق سادته في السلطة فهذا الاستخدام السيء من السادة والسلاطين للمواطن اليمني ولد عقيدة خرافية تبنى على الجهل المطعم بالعزة والأنفة في نفس المواطن المخدوع الأمر الذي استغله أولئك الكبراء لسوق الشعب اليمني في صراع دام بين السلاطين والسادة أو بين السادة والسادة أوبين السلطان والسلطان أو بين القبيلة والقبيلة أو الحزب والحزب فالجيوش المتحاربة تفني بعضها البعض بملاحم أسطورية دامية لتبقى الأصنام في مأمن من أي مقاومة أو ثورة شعبية تطيح بعروشهم وسلطناتهم الظالمة فصراع الأئمة في صعدة مع السلاطين أو مع بعضهم البعض أو بين ملوك اليمن من غز ورسوليين ونجاحيين وصليحيين وقرامطة وخوارج إلى ملوك آل عثمان وآل حميد الدين إلى قيام الثورة اليمنية إلى وقتنا الحاضر كم من شلالات من الدماء قد سفكت في تلك الحروب الطائفية القاتلة القائمة على طوفان الفتن واتباع رؤساء الضلال وطلاب الملك فقد ظل المواطن اليمني هو القاتل والمقتول وهو الأداة الرافعة لكل دكتاتوري يريد التسلق إلى الحكم على أجساد اليمنيين ودمائهم المسفوكة .

وتمضي الحكاية مع هذا الشعب الذي ظل شريطا محترقا وأداة دفاعية لكل دكتاتوري يريد الصعود إلى الحكم فبحكم التكوين الأنثروبولوجي للثقافة اليمنية القائمة على الولاء المطلق للقبيلة والملك والسيد وكل ذي شأن إضافة إلى الجهل وانحصار التعليم في أسر محدودة ظلت تحتفظ بامتيازاتها إلى وقتنا الحاضر مع وجود البيئة القبلية الحاملة لصفات الأعراب البعيدة عن المدنية والتحضر تلك الأمور ساعدت على استعمال المواطن اليمني بعيدا عن الدستور والقانون وظلت العلاقة بين الحاكم والمحكوم تشوبها العشوائية بعيدا عن رسم خارطة طريق تنص ببنود واضحة على الحقوق والحريات ذلك ما كان موجودا حتى ما قبل ثورة 1962م وبعد قيام الثورة اليمنية لم يكن حال المواطن بأفضل من الأحوال التاريخية السابقة حتى مع وجود الدستور اليمني واللوائح والقوانين وذلك لسبب بسيط وهو انعدام المنفذ لهذه القوانين وفقر الوعي الشعبي وسيادة الجهل وشيوع الطقوس القبلية ومحدودية التعليم ووئد المنظمات الحقوقية ومصادرة الديمقراطية فكل من يرتقي إلى الحكم يكون واصلا من خلفية عسكرية أو قبلية ذات منحى دكتاتوري يتكئ على نظرة انفرادية استبدادية ترفض الاعتراف بالآخر إضافة إلى وجود الانقلابات المتكررة والتصفيات الرئاسية الأمر الذي أدى إلى فقر الاستقرار وانتشار الفوضى والحروب المستمرة .

كان المواطن يشقى في جنوب اليمن وشماله فالاشتراكية الشيوعية شكلت خطرا كبيرا على الحياة المعيشية للمواطن اليمني الجنوبي وسلبته أعز ما يملك وهي مصادرة حقوق الملكية وجعلتها من حق الدولة فأضحى المواطن مسلوب الإرادة لا يمتلك عقارات ولا عروض ولا مسكن ولا أولاد وظل يقف في طوابير طويلة ينتظر لقمة العيش من مطاعم الأباطرة والدكتاتوريين فعقمت حياته عن العطاء فانزوى مكتفيا بما يلقى إليه من الفتات الفائض عن موائد الحزب في صورة مهينة تبعث على الأسى والألم ... أما المواطن في الشمال فلم تكن حاله بأقل من صاحبه في الجنوب فهو وإن لم تصادر ملكيته كصاحبه إلا أنه فرضت عليه الإتاوات والضرائب إلى جانب الزكاة ولم يحصل على ضمانات أو تعويضات أو تشجيعات زراعية أو حقوق تضمن له عدالة الأخذ والعطاء فتحصيل المكوس والضرائب يتم بعنف وحبس وطمع وسلب وإهانة فظل المواطن في هذا الجحيم دون رحمة أو شفقة لفقير أو مسكين أو أرملة .

أما الوحدة اليمنية والتي جاءت بانتكاسة كبرى للمواطن الشمالي والذي بدأ يتنفس الصعداء في العقد الأول لحكم صالح فقد تعكرت حياة المواطن الشمالي بعد الوحدة وارتفعت الأسعار حيث قد تواكبت الوحدة اليمنية مع أزمة الخليج التي كان لها الأثر الأكبر في سقوط الاقتصاد اليمني وتضخم العملة اليمنية وارتفاع الأسعار وقد زاد الطين بلة الأزمة السياسية التي نشبت بين صالح والبيض والتي أدت إلى انفجار الوضع بالحرب بين الشمال والجنوب وظل الشعب اليمني يعيش المحرقة بكل تفاصيلها وأهوالها وتداخلت عناصر عدة لتعقد المشهد السياسي فهو ينتقل من عقدة إلى عقدة ومن حرب إلى حرب ومن أزمة إلى أزمة فما كاد يستقر قليلا بعد حرب صيف 94م حتى ظهرت حروب الحوثي في صعدها وبدأ الصراع بين الجيل الثاني لأبناء حكام اليمن متواكبا مع الحراك المسلح في الجنوب المطالب بالانفصال وظهور القاعدة بصورة قوية في اليمن مع إطلالة الحوثي من صعدة طامعا في إعادة حكم الإمامة في اليمن فخاضت الدولة ستة حروب توجت بعدها بثورة شبابية شاملة أسقطت صالح وأظهرت أنياب الحوثي القاتلة .

فقد استغل ذلك الانتهازي سقوط النظام فدخل كفيروس قاتل في جسد الشعب اليمني يحقنه بأفكار منحرفة مستغلا حاجة الناس من الأسر الفقيرة ليزج بأبنائها في معركة خاسرة يقتل فيها اليمني أخاه اليمني بوحشية وقسوة وعنف إضافة إلى تفجير المساجد والمقرات ودور القرآن الكريم في صورة إرهابية شائنة وتواكبت حركته النازية مع تنظيم القاعدة الأكثر دموية في تاريخ الحركات الإرهابية مع الحراك المسلح مع شركات الإخراج المساندة والداعمة دوليا وإقليميا ومحليا وهذه الحركات الثلاث ارتبطت بأهداف سياسية خاصة وعامة وكلها تنحو لإسقاط الحركة الثورية المتمثلة في جناح الإصلاح وحلفائه فالصراع الوجودي على الملك ظل المحور الذي يدور حوله الصراع وهو إرث تاريخي يرجع إلى آلاف السنين فتبدل المشاهد السياسية وتغير التحالفات قضى بتدوير الصراع التاريخي بصورة متكررة فما يكاد يموت حتى يظهر في صورة جديدة فعداء الإصلاح والاشتراكي عاد إلى تحالف استراتيجي وعداء الحوثي والمؤتمر عاد إلى تحالف دموي وهكذا تتكرر المشاهد وتولد الأزمات وتذهب حكومة وتأتي أخرى والضحية هو الشعب اليمني بكل تكويناته الاجتماعية .

فقد بلي ذلك الشعب في كل المشاهد المأساوية بكوارث السلطة واحتكارها للحقوق والواجبات على نخبة محدودة تتصل ببلاط الملك وبقي الشعب برمته يتحمل الأوزار والتضحيات التي تسبب فيها قادته فهو البقرة الحلوب التي يمتص المسئولون لبنها ويتنصلون عن تحصينها ورعايتها فكل القوانين تميل إلى جانب المسئول وكل المبادرات تخدم الإستقراطيين من عتاولة الحكم والابتزاز فهناك صناع الأزمات ومبتكري التجويع ومهندسي التركيع فسراق الثورات عبر التاريخ لم يكن لهم رأفة ولا رحمة ظلوا يشعلون الحروب ويصادمون بين الشعوب لإلهاء المتطلعين إلى الحكم بدوامة الأزمات وبؤر الغلاء وبراكين الحروب وطوفان المصائب فظل الشعب اليمني يلعق جرحه ويتمرغ على كثبان الرمضاء الحارة بعيدا عن الوعود الكاذبة التي تقيئها ألسنة مسئوليه على وسائل الإعلام العامة والخاصة فقد استغل هؤلاء الظلمة والمستبدون حاجة الشعب وفقره في تركيعه وتسليط بعضه على بعض تحت شعارات الولاء المذموم للسيد والرئيس والشيخ والقبيلة والجهة والعنصر والحزب وهي أمراض وراثية مزمنة عطلت الوعي الجمعي لدى الشعب اليمني ومزقته فرقا وأحزابا يسوم بعضهم البعض سوء العذاب .

فمتى يصل الشعب اليمني إلى وعي عام تتوحد فيه الرؤى والأفكار وتسود في أفقه العدالة وتغني على ربوعه الحرية ويتكامل الحاكم والمحكوم ويكون الولاء فيه لله ثم الوطن تلتحم فيه الجهود وتتجمع السواعد ويرفع فيه شعار العمل من أجل وطن موحد يسوده الأمن والاستقرار ويرفع لواءه عاليا شامخا وتجمع الجهود كلها لصد كل دعوة عنصرية أو تخريبية أو طائفية أو دموية .