الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ١٠:٥٥ صباحاً

لا بدّ من صنعاء ولو طال السفر!

عبد الحسين شعبان
السبت ، ٢٨ يونيو ٢٠١٤ الساعة ١٢:٠١ مساءً
في تناقض عجيب يصف الشاعر مصطفى جمال الدين المجتمع النجفي في العراق بالانغلاق، وفي الوقت نفسه ونقيضاً له، يقول هناك انفتاح على صعيد الفكر، أي ” الفكر المنفتح في المجتمع المنغلق”، هكذا كنت باستمرار أنظر إلى اليمن وتزداد قناعتي على نحو راسخ، بأن قيود التخلف الشديدة التي تلّف اليمن، يرافقها وعي متقدم، على نحو عفوي وتلقائي ممزوجاً بذكاء متميّز، تكتشفه لدى النخبة بشكل خاص، ولدى العامة أحياناً.
مناسبة الحديث هذا هو حلقة نقاش للخبراء في ميدان العدالة الانتقالية نظمتها وزارة الشؤون القانونية ووزيرها محمد المخلافي الذي كان أحد أبرز نشطاء حركة حقوق الإنسان العربية خلال العقدين المنصرمين، وساعد في تنظيم الحلقة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، وإلتأمت في مؤتمر برعاية رئيس الوزراء محمد سالم باسندوة.
وعلى مدى يومين دار حوار معرفي وأكاديمي ومهني وحقوقي وثقافي بخصوص مفهوم العدالة الانتقالية وآليات تطبيقها والقواعد العامة التي تقوم عليها وخصوصيات المنطقة العربية، بل كل بلد عربي فيها، إضافة إلى الإجراءات التي اتبعتها اليمن والتدابير الأخرى التي ينبغي القيام بها لتأمين الجو الإيجابي لتطبيق مبادئ العدالة الانتقالية، وهو ما عبّر عنه محمد المخلافي بإشارته إلى التزاوج بين “التسامح والعدل” من خلال المبادرة بإعداد مشروع قانون العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية>
ويأتي لقاء الخبراء بعد 14 ندوة ومؤتمر وورشة عمل وحلقة نقاش ولقاء تشاوري، إضافة إلى تلقي مقترحات من منظمات دولية حكومية وغير حكومية وأحزاب ومنظمات حقوقية وأفراد. المشروع تم تأسيسه على ثلاث أركان أولاً الصفح، وثانياً العدل، وثالثاً السلام، وهذه الأركان جزء من منظومة دقيقة لقّحت بموضوع ” العفو” بالعدل، بحيث لا يؤدي الأول إلى تهديد السلام الذي هو الهدف السامي المجتمعي من آليات تطبيق العدالة الانتقالية، وصولاً للمصالحة الوطنية والسلم المجتمعي، ولكي تكون المصالحة الوطنية عادلة ومستمرة، لابدّ من اعتماد مقتضيات العدل والصفح معاً، وهذا يحتاج عفواً غير تمييزي، ولن يأتي هذا دون معرفة الحقيقة، خصوصاً بمعرفة الضحية أو ذويه والمجتمع وقائع الانتهاكات ومن قام بها، ولن يتم ذلك الاّ بالمساءلة، وتحتاج هذه إلى الاعتراف والاعتذار والعقاب في حالة عدم الانصياع أو تكرار الانتهاكات.
ولكي يكتمل المشروع لا بدّ من جبر الضرر وهذا أوسع من التعويض للأفراد والضحايا، وجبر الضرر فيه تعويض للفرد والمجتمع وتخليد الذاكرة الوطنية ومنع تكرار الانتهاكات الجسيمة في المستقبل، أي أن العفو لا يعني إسدال الستار على الذاكرة لكي يطويها النسيان، فالعبرة بالتذكّر والاستذكار لمنع ما حصل، والحيلولة دون تكراره بنشر وتعميم ثقافة السلام والتسامح والاعتراف بالآخر وعدم الثأر والانتقام.
الحوار عكَسَ تعدّد الآراء وتنوّعها، فضلاً عن وعي ومسؤولية، وإن كانت بعض جوانب التاريخ والصراع ضاغطة بحدّة، وخصوصاً المسألتين الجنوبية والحوثية، لكنه وإن اتسم بحرارة القلوب، فقد كان امتاز ببرودة الرؤوس كما يقال، من خلال مراجعات للعديد من التجارب الناجحة والفاشلة أو المتعثرة، إضافة إلى التجربة اليمنية ذاتها، سواء قبل الوحدة أو بعدها، وارتباطها بظاهرة العنف والانتهاكات الجسيمة والفساد المالي والإداري.
إن توفّر الارادة السياسية والتوصّل إلى مخرجات الحوار الوطني للقوى والفاعليات السياسية والمدنية، والذي استمر لشهور غير قليلة، يؤشر إلى ملامح الدستور المنشود الذي ستتم في إطاره انطلاق عملية سياسية جديدة بعد عامين ونيّف من تنحي الرئيس علي عبدالله صالح، بمبادرة لمجلس التعاون الخليجي والتي كان لها دور مهم في نزع الفتيل والتوجه صوب حل سياسي يُراد له أن يتوطد ويتعزز.
ولا شكّ أن هناك عقبات عديدة واجهت مشروع العدالة الانتقالية، قسم منها شكك في محتواه والآخر اعتبره محاولة للانتقام، وبالطبع فإن هناك خشية من كشف الحقيقة والاعتراف بالارتكابات، ومن الاصلاح المؤسسي، لكن ما يشجع هذه التجربة العربية الوليدة، على الرغم من أنها لا تزال جنينية، بعد التجربة المغربية وانطلاق التجربة التونسية، إنها لقيت دعما من مؤتمر الحوار الوطني، إضافة إلى اهتمام عربي ودولي، وهو أمر في غاية الأهمية والمسألة لها علاقة بإعادة بناء الدولة على أسس جديدة، والعبرة ليست برفض وتجاوز الماضي وسياساته وآثاره، بقدر ما يتعلّق الأمر بعدم تكرار ما حصل عبر الإصلاح الشامل للمنظومة القانونية والقضائية والأمنية وتربيتها والمجتمع ككل على احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.
الاستعانة بالتجارب العربية والدولية، مسألة مهمة للافادة منها، والمقصود ليس استنساخها أو تقليدها أو نقلها واقتباسها حرفياً، بقدر ما يعني الاطلاع عليها، والاغتناء منها والتعرّف على التحدّيات والمصاعب والمشكلات التي واجهتها، والحلول التي اجترحتها، والآليات التي اعتمدتها، مثلما هي العديد من التجارب في أوروبا الشرقية أو أمريكا اللاتينية أو جنوب أفريقيا أو المغرب أو بعض دول آسيا وأفريقيا، وتنقسم الآليات التي اتبعتها التجارب الدولية إلى آليات قضائية وطنية سواءً كانت المحاكم المدنية أم المحاكم الجنائية التي يمكنها القيام بالمساءلة عن انتهاكات القانون الوطني ومحاكمة المرتكبين وإصدار أحكام قضائية بالتعويض، وآليات قضائية دولية أو (وطنية ودولية) مختلطة كما هي تجربة سيراليون (العام 2002) وهي من أشهر التجارب الدولية المختلطة، كما هناك آليات قضائية دولية خاصة مثل “المحكمة الدولية الخاصة بلبنان” واغتيال الشهيد رفيق الحريري (العام 2005) أو المحكمة الجنائية الدولية لرواندا (العام 1994) أو المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة ( العام 1993) وهي محاكم خاصة ولا يمكن تكرارها.
أما اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية، فغالباً ما يتم إذا كانت المحاكم الوطنية غير قادرة أو غير مؤهلة على التعامل مع الحالات الخاصة بانتهاكات حقوق الإنسان أو جرائم الحرب أو جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية، وقد اعتمد ذلك بعد تأسيس نظام محكمة روما في العام 1998 ودخوله حيّز التنفيذ في العام 2002، وليس هناك سوى قضيتين مطروحتين عليه هي ملاحقة الرئيس السوداني عمر حسن البشير والمطالبة بتسليم سيف الدين القذافي إلى المحكمة الجنائية الدولية، حيث تجري محاكمته في القضاء الوطني الليبي، الذي تقول عنه محكمة روما أنه غير مؤهل لذلك.
أما الآليات غير القضائية، بمعنى السياسية والاجتماعية والثقافية والتربوية، فتشمل التحقيق وتشكيل لجان تقصي حقائق ولجان للحقيقة والمصالحة والانصاف والعدالة، وغير ذلك من التسميات التي اتخذتها العديد من التجارب الدولية. الهدف هو عدم الافلات من العقاب، وإزالة آثار الماضي للمرتكبين وللضحايا على حد سواء وليس للانتقام أو الثأر أو الكيدية، وهناك فارق بين العدالة الانتقالية والعدالة الانتقامية، وبالطبع فالعدالة الانتقالية هي مؤقتة وهي ليست بديلاً عن العدالة الجنائية.
ولا يمكن للمصالحة الحقيقية أن تتحقق دون تهيئة مستلزمات إدماج الجميع في بوتقة الانتقال الديمقراطي. والسبيل لتحقيق ذلك يتم بـ: 1- التشاور Consultation والتوافق Harmonization (قناعة مجتمعية) 2- الاهتمام بحاجات المجتمع الخاصة (واستجابة لها). ويعتبر التشاور والتوافق ضروريان جداً في المرحلة الانتقالية لتكوين رؤية مشتركة لإجراءات العدالة الانتقالية.
ولا بدّ أن تكون هذه الإجراءات متوافقة مع معايير حقوق الإنسان الدولية ومبادئ حكم القانون Rules of Law وذلك من خلال: تحديد فترة زمنية تكون موضوعاً للفحص، وتحديد نوع الجرائم، وتحديد نوع الأضرار التي ستكون محط الاهتمام، ومن ينبغي مساءلتهم وإخضاعهم لآليات العدالة الانتقالية؟ وما هي نوع المساعدة الدولية المطلوبة للتدخل اللازم؟ ومتى يمكن البدء بتنفيذ إجراءات العدالة الانتقالية؟ والهدف هو تحقيق التوافق بين القانون والعدالة، وبين العدالة والمصالحة وبين المصالحة والسلام المجتمعي دون محاولة فتح الجروح.
وهنا يمكن إلفات النظر إلى أن الفساد والجرائم الاقتصادية هي “أخت” انتهاكات حقوق الإنسان، الأمر الذي يقتضي المساءلة عنها واسترداد الأموال المنهوبة أو الإثراء غير المشروع أو امتيازات الحكام السابقين غير الشرعية، مع الادراك بتعقيد هذه المسألة في النظام المصرفي والمحاساباتي والمالي والفني الدولي، ولعلّ استحضار تجارب ناجحة مثل البيرو التي حوكم رئيسها البيرتو فوجيموري بتهمة الفساد باعتباره انتهاكا لحقوق الإنسان مسألة مهمة، وفي عالمنا اليوم هناك علاقة بين الفساد والإرهاب، وفي ذلك جانب آخر من جوانب تدويل آليات العدالة الانتقالية، التي لا غنى عنها على الرغم من ازدواجية انتقائية السياسات الدولية.