الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٩:١٦ صباحاً

رمضان..في ذاكرة التاريخ..!!

ادم امير المزحاني
الأحد ، ٢٩ يونيو ٢٠١٤ الساعة ١٠:٤٠ صباحاً
بعيداً عن فوضاء المكان ومأساة الواقع المر ,وكذلك بعيداً عن السياسة ومناكفات الأحزاب وأخبار الصحافة المعتادة ,وعن كل أشكال المعانات والتنقيب عن أسبابها وظواهرها ,معاً لنبحث عن نافذة أمل تقودنا الى استذكار وإعادة ذكريات الزمن الجميل..زمن التفاؤل والتسامح وحب البقاء ..الى زمن البساطة والحب والإخاء ...لنرمي بكل الحقائد والضغائن لنصافح اجمل واشرف شهور السنة الهجرية بذلك القلب الصافي النقي ونعانق به تجلياته الايمانيه والروحانية ,لتكن بداية مشوار الى حياة حافلة بالعطاء والعمل في حسن طاعته التي لا تنضب.

انها ليالي قلائل وليس بالكثير ليحل بنا الزمن في وسط كله بركات وإيمانيات ..رمضان تلك الذكرى المتجددة وذلك الوشاح الذي يتتوج به كل مسلم في أرجاء هذه المعمورة ينتظره بفارغ صبره ليجدد به ذلك القسم والعهد الديني مع ربه ويغسل به قلبه من كل إثم وظلم اقترفه بحق غيره...فهل لهذه الذكرى المتجددة طقوسها وعاداتها التي مازالت بذلك الطابع الجميل طابع الأجداد وطابع الإنسان اليمني البسيط الفلاح المكافح..؟!فتستذكر هنا ذاكرتي مقولة قيلت لأحد الأدباء العمالقة والتي ربما فيه نوع من التصوير البلاغي لما سيأتي حين قال:فالذكريات شكل من أشكال اللقاء..فهل لهذا الشهر ذكرياته وطقوسه ..؟ نعم فلهذا الشهر مازالت له ذكرياته القائمة التي لا يمكن لها ان تغيب عن الذاكرة ؛ او ان تمحى بفعل عواصف الرياح ,بل مازالت راسخة في الذهن ؛فتعاد ذكرها ولقائه في شهرنا هذا وكأنها ليست بالذكريات فأجوائها وطقوسها هي من تحكي لنا تفاصيل حياته ولياليه فهي متراكمة منذ الأزل وطابع التعايش معها هو ما يبرهن تلك الاختلافات والتسلسل الزمني بينها وبين غيرها من اللحظات التي اعتدنا ان نعيشها طيلة ايام السنة جميلة.

ولرمضان حكاية تاريخ في اليمن تختلف بكثير عن البلدان الأخرى ,وما ان يهل هلاله فترى ذلك الإنسان اليمني بطابعه المعتاد وهو يهلل بلهجته البسيطة وكلماته العامية فرحاً وابتهاجاً بقدومه ,رغم ما حل به من مصائب وانهيار لوطنه إلا انه مازال ذاك الإنسان الذي يحمل قلبه المزيد من معاني الأمل واستشراقاته متحدي قسوة الحياة وواقعها المزري ,فألف حكاية وراء هذا الكائن الصنديد ,فإذا كانت حكايات أبو زيد الهلالي والظاهر بيبرس تسطر بين دفتيها شخصيتهم وشجاعتهم على مدى التاريخ البعيد ؛إلا ان حكاية الإنسان اليمني اكثر من ذلك بكثير ولا اتساع لسردها في هذه ألمقاله الحرة ,وأجدرها ذكراً تظهر جلياً في شهر رمضان من حب وتسامح وإلفه وكرم ربما يضاهى به كرم حاتم الطائي.

رمضان في بلاد اليمن السعيد حكاية مدفونة في ذاكرة التاريخ وتستحق ان نقلب أوراقها لعلى نستعيد جزء منها ,ففي هذا الشهر تبدو الحياة اكثر تفاؤل ,وكل شيء فيها كذلك يبدو جميل في مدنها وريفها ,فالمدينة على كل تلك الضوضاء التي تعتريها وازدحامها بالباعة والمتجولين والساكنين والزائرين ؛فتبدو وكأنها ملك تدلى من صنعة الله بجمال مبانيها ودهشة جوها وسحارة قبب مآذن مساجدها التي ترتسم عليها ملامح أبجديات الإيمان والبهجة لتظهر بحلة جديدة من خلال ما يالتبس بها من فن معماري أتقن الصانع في تشكيلها.

ولمدينة صنعاء القديمة وأزقتها نموذجاً لذلك الجمال ولزائر هذه المدينه المكنونه الذي يختبي فيها سر الحضارة العربية وأصالة العروبة لدى كل مواطن يمني في شهر رمضان وبالذات لجامعها الكبير ـ من الوهلة الاولى يشعر بأحاسيس وجدانية رمضانية امتزجت ببساطة الحياة وبعادات وتقاليد ساكنها الأصليين الذين اعتاد بهم الأمر في هذا الشهر من تشكيل الاحتفالية والطقوس الخاصة بهم من بيع وشراء وتجمع وتثقيف الأطفال ـ في حلقات القران في اوساط الجوامع ـ وغيرها من الأنشطة فظلاً عن الأطعمة ذات الأصناف المخصصة لهذا الشهر الكريم والتمور والزبيب والقشر الصنعاني الشهير الذي أصبح رائحة إعلام القادم بأنه في صنعاء القديمة .

فصنعاء القديمة وحاراتها ما هي الى نموذج واحد عن الحياة الرمضانية الممزوجة بحلاوة الإيمان والمكان في اليمن .. هنالك كذلك نموذجاً اخر يمتاز بدرجة مقاربة لتلك "رمضان والريف" هو الأخر نموذج لا اجمل منها ولا ابسط من روعته ؛فريف اليمن وقراه هي حكاية ثانية ظلت ومازالت فيها الكثير من أسرار الروعة والدهشة تتجلى خلال شهر رمضان ...الريف حضارة عريقة لم تكشف بعد بالنسبة للمواطن اليمني ولولا الريف ودماثته لما أبدع الكثيرون من كتاب ومثقفي اليمن فهو حاضر الابداع ونافذة النزهة والملجئ الأول عندما تكثر المصائب والمتاعب ,وهو متغزل الروح البشرية وذاك الحنين الذي نتغنى به ونحو في مواطن الاغتراب وبلاد المهجر ,فحضارات اليمن وتاريخها المتعاقب لم يكن إلا نتاج حضارة ريفية أطلاقها السابقين في ظل واليمن كانت تعيش أبهى عصورها التاريخية ونموها الاقتصادي الذي كان قائماً على عاتق الفلاحة والأرض والإنسان وشجرة البن اليمني شاهداً ,وما التجاهل والتغيب الحاصل لعراقة هذا الوطن التاريخي ما هو إلا واليمن تعيش وأبنائه في مفترق طرق عديدة نتيجة لم تمر به من تغير ,لكن يظل ريف اليمن وفلاحيه رمزاً للعطاء والنضال والكرم وتظل معاول ألفلاحه هي الأخرى رمزاً واقعياً لبساطة الريف اليمني وآهلة .

فالحياة في الريف اليمني تختلف تماماً وبالذات في رمضان وبالأغلب في مناطقه الجبلية ذات الامطار الغزيرة والأشجار الباصقة ومحافظتي الجميلة "إب الخضراء" وتحديداً قريتي التي غيبنا عنها ظروف الحياة ومطالبها التي لا تخلص "المرجامه" برمتها احد أشكال الجمال الرباني البديع في اليمن الذي لا يستطيع زائرها مفارقتها ؛فحلاوة المكان ومناظرها الخلابة وهواها النقي وطابعها المعماري ذا البناء الذي دمج تصاميم القديم مع الحديث ليبدو لنا بشكل هندسي متناسق فيه حكاية إتقان ماهر,في طياتها يختبي فن الجمال ودهشة المنظر سوا وأنت تجول في أروقت حاراتها المكتظة بالساكنين وزقازيقها ألضيقه ,او وأنت تتقاسم وتشاطر من حولك من نقاشات واجتماعات التي جرت العادة على إقامتها في غرة شهر رمضان بعد ان يكون طيف من الناس قد أكمل واجبة تجاه ربه من تأدية الصلاة أي في وقت وما بعد العصر ,ليكن جميع الناس على اشتياق وموعد لحضور مثل تلك التجمهر التي لا تخلوا فيها بساطة الحديث وفكاهة المواقف وطرائف الصغار الذين لهم نصيب وافر من ذلك ..لا أنسى ان لوديان الريف وحقوله المطرزة بالسندس الأخضر منظر رباني يحكي لنا عظمة الرب ,وكذلك أسواقه ذات الروعة والبساطة التي تكتمل وأنت ترى كل أطياف المجتمع في تلك العصرية الرمضانية الساحرة يتقاسمون شراء متطلبات وجبات الإفطار وتدابير حياتهم المعيشية ؛أما عندما يبدأ ملامح أليل بغياب الشمس نحو الأفق وتعانقها تلك الجبال الشاهقة وقبل ساعة واحدة من أذان المغرب يخلى المكان والازقه من الناس والمارة ليتربع بهم الحال في سطوح منازلهم المتجاورة والمتساوية البناء والتي لا تعلوا كثيراً عن بعضها صامتين ومسبحين مستشعرين بذلك الجو الإيماني الرمضاني منتظرين صوت الحق والخروج الى المساجد الذي هي فكاهة الجو الرمضاني لتأدية الصلاة بعدها لينصرفوا كل على حده نحو منازلهم ومن ثم العودة لإكمال مشوارهم المعتاد في تأدية حق الله من صلاة وقراءة قران وغيرها من الطقوس الدينية المفروضة .

الى هنا يقف قلمي عن سرد تلك الحكاية المتجددة من كل عام هجري ؛رغم تشعب الموضوع ومحطات هذا الشهر الكريم الذي هو كله حكايات وذكريات إلا اني لم أعطيه حقه ولو أردنا سرد الكثير ,فالحاجة الى مجلدات لتحكي أسرار هذا الشهر..إذن شهر مبارك وكل عام والوطن والجميع بألف خير.