الثلاثاء ، ١٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٩:١٠ صباحاً

أمٌ بلا وطن ..(1)

صالح السندي
الاثنين ، ٢٨ يوليو ٢٠١٤ الساعة ٠٢:٤٠ صباحاً
كلما في الأمر انها بدأت تعتصر الذكريات واحدة تلو الأخرى تخرج فاقدة الشعور باهتة كالذهول ذابلةً كأوراق خريف أصابها الوهن في مواجهة الإعصار تعزف الوتر وتطلق الشجن وتتغنى بالحنين اعذب لحَن.. لم يكن ما من شك انها تحلم بباكورة امل جديد يفتت جمود الماضي ويزيح عن كاهلها عبء السنين ..مترهلة بكل تلك الألآم تمضي متعثرة في الطريق عابسة الوجه الى مختلف الدروب, وهناك على مفترق الطرق واقفة واجمة تتماشى مع تلاطم حركة السير بلا هدف شاردة تائهة لا تدري اين المسير واين السبيل..

أمٌ الأبناء العشرة ..تتضور جوعاً شريدة في الطرقات تبحث عن ملجأ ومأوى يقيها شر الأيام وبلاء الأزمان, تترقب عن مرفأ امان ينتشلها من لظى التشرد والوجوم أحتفلت وحيدة في طرقات البلدة العتيقة بعيد ميلادها الآخير تحت أضواء نجوم ليل اكحل غاسق .. مامن قريب يشاركها الآمها ولا غريب يطبطب على أوجاعها سوى الذكريات تحاصرها كقيود وشباك , تمشى بأنفة الزمن المتقهقر تعبر الطرقات وتلعن الزمن الوضيع الذي انجبت منه صنوف العقوق والخذلان والعصيان من ابناء عاقين لا مبالين بآلام أم منكسرة بلا وطن.

توقفت لوهلة على قارعة الطريق فقد أعياها التعب وطول الإنتظار واضناها الجوع, فما من فتات تقتات به في هذه البلدة الجدباء حتى متاجرها الفارغة تعزف على ايقاع الرياح اسطورة الفناء مدوية في وجة الزمن.. كأنها مدينة اشباح خرجت لتوّها من حرب ضروس عاتية تتضور رهبة وخوفاً من مجهول قادم .. انه الحرمان الذي فتت الجدران واشبعها جفافاً وترهلاً.. انه الفقر الذي لف كساء المدينة البائسة ما من مكان آمن يحتوي البقية الباقية من عمرها..الوان كسائها الأحمر والأسود يلفهما بياض الدموع وحمرة الدماء المحفورة في قدميها تنقش على دروب المدينة كلمات من شقاء .. لا تسمع سوى اصوات الريح وهي تضرب الأبواب و دفة النوافذ وتجر ورآءها بقايا لفات الطعام و البلاستيك وقارورات فارغه وبالكاد علب تقعقع متدحرجة بأصداء صاخبة.

توشّحت بالحياء وهي تلف طرقاتها من حي لآخر تبحث عن وليدها الرضيع (الثورة القادمة) من رحم المعاناه تجلّت قدرتها بين الأكوام والحطام لا أمل سوى بصيص خفي يأتي على استحياء يحمل اوزار ماض بغيض تغنوا باسمه ملكية وجمهورية وكلاهما ذل واستعباد ومهانة.

يلهث حبواً في الأحياء المجاورة بحثا عن والدته تتقاذفه الأيادي وتطارده لعنات المساء ويجثم على صدرة شبح الحرب هارباً من المجهول والى المجهول , طفولة بريئة اغتالتها ذئاب مهاجرة.. بالكاد لفائف قماش ممزقة تستر عورتة وساقيه الشاحبتين ووجنتيه يملأهما العرق وانفاسه تلهث بتقطعٍ متسارع, عمره الصغير يا أمي لم يحتمل كل هذا الهراء و الشقاء والبكاء وارهاق الدموع , لم يلتقيا ولن يلتقيا في هذا الزحام على انقاض المدينة المترامية الأطراف وكانها قلعة صماء بلا مدخل او باب يلج اليه المسافر, تحتوي في قلاعها و حصونها اسرار تأريخ وزمن غابر مكسو بفواجع المعارك التي التهمت كل شئ بما فيها العقول والأفئدة والأبصار.

ديارها اصبحت ثكنات ومعسكرات و جدرانها متارس وخيام ومحابس, وأصوات الرياح تحمل بقايا اوراق ممزقة واقلام متناثرة هنا وهناك حبرها الرحى, وكتب بالية يعلوها الصدى تسكنها خبايا الحروف وتلتهمها جورات الواقع , وجمرات تلتهب تحت قدميه الصغيرتين, ما عساه يعمل هذا الحلم الصغير الطفل الكبير, انصهرت فيه بوتقة الحريه ومعدن الرجال حاملاً عرش والديه ومملكة ابية وجده آزال الخالدة في عبق التأريخ الوضاءة نورا وهدىً.
أبناؤها اجتثوا من حطامها كل شئ حتى التربة ضمُرت من مائها والأغصان شاخت من هزلها والعيون غارت من هول حلمها وملامح التأريخ المشوه تطبع على وجهها تجاعيد شمطاء تخنق العبرات وتطلق الزفرات.. لوحة خانقة لاجيل ينتظر القادم سواها وسواه فأنّا لهما أن يلتقيا .. أمي اليمن وطفلها الثورة والأمل. عصفورة هناك تحلق فوق رأسيهما تعلن اللقاء ربما غداً, وتنسج الوصال من خفايا الردى وتصلي لأجل هذا اللقاء, لم يعد يسطر محنتيهما معا سوى هبوب تلك الرياح الممتزجة بصفير اهوج يقذف كل شئ امامه بما في ذلك العصفور المتمرد في الأجواء.

ينادي ملهماً بحرارة تنزع آخر فتيل للشوق ماذا فعلوا بك يا أماه أشقياء الليل ,ادعياء التمدن وقطاع الطريق قدماها تنزف دماءاً وعيناها تبحر أدمعاً وشفتيها ترتجف متوجسة من لهيب تلك الجراح والطعنات التي اصابة جسدها المثخن المقاوم المكابر. كلٌ نال منها باسم الحرية والعطاء و ذبحوها باسم العشق المجنون والحفاظ عليها وتقاسموا التركة الأم ورموها في الأنفاق بلا عائل او معين..واغتالوا بُنيها الصغير منذ ميلادة الأول في الساحات, تلك الثورة التي لم تكن ثورة بل كانت ضربا من الجنون اشتعلت تحت مسيرتها كل اصناف الغدر والخيانه وكل مطامع الغاب وتلونت تحت رمادها خبايا السياسة والمتاجرة والعناد .. ترتمي وهلة في ايدي تجار الحروب ليتقاذها ثعابين السياسة وعلى محراب المصالحة تضيع كل تلك الدماء هدراً .. هي لم تبتأس صنعاء الصمود تعلم ان لعنة دماء أبناءها ستطارد القتلة و خفافيش الظلام حتى آخر وهلة و رمق وزقاق.. وستقتص حتما لذلكم الكم الهائل من الشهداء.تمضي ويمضي وليدها -أملها الوحيد- في الطرقات موقنة أن سيلتقيا قريباً ليسطرا معا ملحمة اليمن الجديد.