الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٢:٢٣ مساءً

سلاماً على محمد عبدالملك

حسن العديني
الثلاثاء ، ٠٤ نوفمبر ٢٠١٤ الساعة ٠١:٠٤ مساءً
في فقه اللغة تحمل الكلمات المتشابهة في اللفظ قرابة في الدلالة والمعنى يمكن ملاحظتها فيما بين الاغتياب والاغتيال من علاقة القربى. وكما أنهما موضوع في فقه، فهما كذلك في علم الأخلاق، إذ هما مسمى لسلوك منحط، وليس الاختلاف بين ممارسة الأولى بالكلام والثانية بالفعل ما يسفر عن اختلاف في النتيجة حيث يهدف الفاعل إلى قتل الآخر، معنوياً بالاغتياب ومادياً بالاغتيال. والتماثل ليس على خلاف في الأديان، كما في القرآن الذي نهى عن النميمة والتنابز بالألقاب يؤكد بالسؤال الاستنكاري “أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه”.

كما لو أنني في معرض استهجان الغيبة بموازاتها بالقتل غيلة، مع أن قتل النفس من الكبائر التي لا تشتمل في النص القرآني على اقتراف النميمة. لكنما قصدت الإيماء إلى ما يولده الكلام الخبيث عن المرء في غيبته من نفور الأنفس السوية فلا تقول في صاحبه سوى أقذع الصفات.

بهذا المعنى وفوق حرمة الدم، يعدّ الاغتيال شاهد صدق على خسة النفس وانحطاط الضمير. فإزاء الحروب الدائرة في البلاد الآن لا يمكن للمرء إلا أن يأسف على العبث بأرواح الرجال ومقدرات الوطن، لكنه لا يستطيع ان ينفي عن المقاتلين صفات الرجولة والبطولة ماداموا وقعوا في غواية المصابين بهوس السلطة أو بهوس الخرافات الدينية. مع أو أولئك الذين يقودون الحروب من القصور المحروسة، يفتقدون الرجولة ولا يمتلكون الشجاعة. وأما الذين يمارسون القتل على غفلة ثم يهربون فليسوا من شجاعة الفرسان بشيء.

ولقد تملكتني المخاوف منذ استفحلت مشكلة السلطة في اليمن من مسارات عديدة لتطورات الأحداث، وأولها أن تفتح حنفية الدم، وكان شعوري ولا يزال أنها إذا فُتحت فسوف يصعب إغلاقها قبل أمدٍ طويل. وربما اعتقدت الآن بعد أن بدأ سيل الدم بالتدفق أن اليمن مقبلة على حروب طويلة ومتعددة الأطراف وأن هذا السيل العارم والجارف سوف يتوقف حين يتولى الإرهاق القوى كلها حتى لا تجد سبيلاً للبقاء وتحكيم العقل وإلقاء السلاح، وعندئذ سوف ينهض الشعب بمشروع جديد للحياة ورؤية ضافية للتقدم.

كنت على إدراك بأن الحروب قادمة والفوضى مؤكدة، وكان يقيني أن الاغتيالات السياسية ستمثل واحداً من الأساليب والأدوات المحتملة، لكني لم أتخيل حتى في أكثر المشاهد عبثية أن يكون الدكتور محمد عبدالملك المتوكل بين ضحايا الفوضى. وليس لديّ ما أضيفه إلى ما يعرفه الناس عن مقته للعنف وشخصيته الودودة المسالمة وعن صفات طيبة شتى ستخطها الأقلام الدامعة على غيابه، لكني أشير إلى صفات أثيرة ثلاث يتمتع بها.

الأولى: أنه عاش حياته مثابراً من أجل القضية التي نذر نفسه لها، لم تفتر عزيمته ولم يلن عوده، وكان لديه الذكاء والدهاء للتعامل مع الظروف والرجال والقوى المختلفة دون أن يفقد البوصلة أو ينسى الهدف. ولقد ظل على إصراره وتصميمه في فترات مرضه ومع شيخوخته ووهن جسده.

الثانية: أنه كان يقبل الاختلاف دون أن يتخلى عن المودة، وكذلك فقد اختلفت معه اختلافات عميقة تمس قضيته على صفحات الجرائد وفي المنتديات والمجالس دون أن يلقاني بوجه عابس.

والثالثة: أنه كان لا يكابر حين يرى الحجة عند المختلف معه في الرأي. وتحضرني في هذا واقعتان. وكان قد أعد ورقة رأى أنها سوف تخرج المعارضة من الأزمة التي حلت بها بعد حرب 1994م. ودعي ممثلون لأحزاب المعارضة لمناقشة الورقة في ندوة عقدت بمقر حزب كان تحت الإنشاء ومات قبل إشهاره «اتحاد القوى الوطنية» كي تقر من قبلها وتنشر باسمها، وفي الندوة اعترضت على الورقة لأنني لم أجد فيها تصوراً للمستقبل بمقدار ما أنها تناولت تاريخ اليمن القريب من وجهة نظره. وعلى سبيل المثال فقد اعتبر حرب 1994 نسخة ثانية من حرب السبعين يوماً التي دارت حول صنعاء وفي أطرافها أواخر 67 وأوائل 1968م. ومنها أن 26 سبتمبر قضت على مؤسسات المجتمع المدني ممثلة بالمؤسسة الدينية وجاءت بالعسكر. وقد أنكرت أن تكون المؤسسة الدينية مؤسسة مدنية لأنها تمارس القهر مثل العسكر سواء بزيادة أنها باسم الله ونيابة عنه فيما تدعي، وضمن انتقادات أخرى اقترحت أن ينشرها الدكتور المتوكل باسمه دون أن تتبناها أحزاب المعارضة، لها نصيب من التضحية في ذلك التاريخ من ستينيات القرن الماضي، ولم يتمسك الدكتور محمد عبدالملك برغبته في نشر الورقة باسم المعارضة ولم ينشرها بتوقيعه.

وفي شاهد آخر دار الحديث في أحد المجالس عن أجهزة القمع وضرب الدكتور مثلاً ببطش صلاح نصر مدير المخابرات العامة المصرية في السبعينيات، وأردت أن أصحح رأياً خاطئاً استقر عند الناس يحمل صلاح نصر مسئولية قمع معارضي حكم جمال عبدالناصر، وقلت إن في مصر جهازي استخبارات أحدهما المخابرات العامة وكانت مهمتهما مكافحة التجسس الأجنبي وممارسة التجسس على الدول المعادية، فوق مسئوليتها في دعم حركات التحرر، وأما الجهاز الثاني فهو مخابرات أمن الدولة «مباحث أمن الدولة فيما بعد» وهو الذي يتحمل ما جرى للشيوعيين والإخوان المسلمين، لكن القوى المعادية لمصر نسبت ممارسات أمن الدولة للمخابرات العامة بغرض تشويه دورها في مساندة حركات التحرر الوطني، وقال الدكتور محمد عبدالملك “لم أكن أعرف”.
والآن بعد أن اغتال الجبناء محمد عبدالملك سوف نفتقده في كل محفل وسنقول دائماً: سلاماً عليه.

"الجمهورية نت "