الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠١:٥٩ مساءً

اليمن .. ماضٍ يرفض الذهاب ..ومستقبل يأبى المجيء

ثابت الأحمدي
الاربعاء ، ٠٥ نوفمبر ٢٠١٤ الساعة ٠١:٠٥ مساءً
سمعت من شخصية يمنية كبيرة عقب قيام ثورة فبراير 2011م، أنه زار الرئيس السابق علي عبدالله صالح والثورة الشبابية في أوج قوتها ووهجها، فسأله: “أيش يقولوا الشباب بالجامعة”؟ فقال له: إنهم يهتفون: الشعب يريد إسقاط النظام. فرد عليه هازئا:”قل لهم ما فيش دولة. ما فيش نظام من أساسه”

كلمة الرئيس السابق هذه بقدر ما هي مجرد مزحة أو كلمة عابرة قالها في المقيل، بقدر ما هي حقيقة مؤكدة تؤكد أنه لا وجود لدولة بمعناها الصحيح، والدليل ما حصل اليوم منذ مطلع العام 2011م، بمجرد أن بدأت أركان السلطة الحاكمة تهتز بمجرد ما اهتزت معها أيضا أركان الدولة خلافا لما حدث في بعض دول الربيع العربي “تونس ومصر” على وجه التحديد، انهارت أركان السلطة السياسية كاملة؛ لكن الدولة لم تتأثر بذلك، لأن الدولة أصلا موجودة..قد يكون هذا الملمح مرتبطا بطبيعة البنية الاجتماعية “السيوسولوجية” المتماسكة في مصر وتونس باعتبارهما أكثر بلدين عربيين نظامهما الاجتماعي يكاد يكون كل منهما واحدا في نسيجه العام، خلافا لبقية دول المنطقة ومن بينها اليمن المتعددة والمتجانسة في نظامها الاجتماعي؛ لكن إلى جانب هذا المظهر أيضا الاستقرار المؤسسي للدولة التي أرسى دعائمها في تونس الحبيب بورقيبة وفي مصر الزعيم جمال عبد الناصر رحمه الله…إلخ.

اليمن يُحكم عبر التاريخ تشاركيا، ومن شذَّ عن القاعدة كان مصيره مصير “صالح” وفي الغالب أسوأ “لعدم وجود مبادرات خليجية أو أممية سابقا”!!بصرف النظر عن طبيعة هذا التشارك الذي هو إلى العرفي أقرب منه إلى الدولة المؤسسية، عدا فترات محدودة جدا من التاريخ اليمني عرف اليمن فيه الحكم الرشيد خلال فترتي الصليحيين، ثم الرسوليين، وما عداهما فهو تشارك عرفي، أساسه “السُّلف والعُرف” لا النظام والقانون، أما صنعاء وما حولها من القبائل “شمال الشمال” تحديدا فلم يكد يعرف الدولة خلال ما يزيد عن ألف وخمسمائة عام، عدا فترات محدودة جدا وفي حدها الأدنى؛ ولذا كان الانقطاع الحضاري التام منذ نهاية الدولة الحميرية الأخيرة بين ماض أقام حضارة تاريخية هي من أعرق الحضارات الإنسانية عبر التاريخ،وبين جديد على كل شبر من أراضيه جمجمة صريعة بذبابة السيف أو سنان الرمح سابقا، وبرصاصة البندقية أو الكلاشينكوف أو بلغم أرضي كما هو الشأن اليوم!! ومن الخرافات التي نصفق اليوم لها أن سد مارب الذي تأسس قبل مئات السنين لا يزال يتصدر قائمة منجزات اليمنيين وفيه تدبج القصائد، وبوسعنا لو ـ كان لنا حكم رشيد ـ أن نبني ألف سد يفوق سد مارب ألف مرة، كما هو الشأن أيضا مع جسر شهارة المنجز الإمامي الوحيد تقريبا!!

طبيعة التركيبة السكانية اليمنية أنها اجتماعية في معناها ومبناها، وليست تركيبة سياسية، بمعنى أن ثمة هوة كبيرة بين المواطن الذي هو إلى الحالة الرعوية أقرب منه إلى المواطن الحقيقي، بالمفهوم المعاصر، وبين الدولة نفسها التي لم يركن إليها اليمني يوما كما هو الحال مثلا في مصر على وجه التحديد؛ لأن الدولة التي عرفها تاريخيا هي دولة جباية أكثر منها دولة عطاء.. أبناء الريف اليمني حين يفتحون أعينهم لأول مرة على الدولة يلمحونها من خلال جابي الضرائب أو عسكري الدولة على الطريقة التقليدية، لا على المهندس أو الطبيب أو المدرس، على تفاوت بين منطقة وأخرى؛ ولذا فإن معظم مناطق اليمن تكتنز بكثير مما يمكن أن نسميه “القوانين المحلية العرفية” المتمثلة في العادات والتقاليد القبلية التي تعتبر في مضامينها الاجتماعية قوانين وتشريعات حافظت ـ إلى حد كبير ـ على السلم الاجتماعي وعلى كثير من القيم الاجتماعية الإيجابية وإن تخللتها بعض السلبيات إلا أنها أقل، كان على الدولة ـ لو وجدت ـ أن تستغل هذه القيم وتلك المنظومات التشريعية في كثير من مناطق اليمن لتعزيز القيم الدستورية والقانونية الحديثة، وتعمل على تذويب الجوانب السلبية منها بهدوء؛ لاسيما وثمة فرص عديدة قد أتتها، مثل فرصة الثورتين في الشمال والجنوب، اللتين أعقبهما روح وطنية هادرة في الأوساط الشعبية سادت كثقافة عامة متأثرة بثقافة المد القومي واليساري، وأيضا عقب إعادة تحقيق الوحدة اليمنية عام 90م التي كانت ربما آخر الفرص التاريخية لأن يبني اليمنيون دولتهم الحضارية، وفيما بينهما فرص أخرى تبازغت بين الحين والحين.. هذه الأعراف والتقاليد في مختلف مناطق اليمن تحل ـ حسبما تذكر بعض التقارير80% من إجمالي مشاكل اليمنيين الذين لا يتعاملون مع المحاكم أو النيابات أو أقسام الشرطة إلا نادرا.هذا إضافة إلى بقية الخدمات العامة المنوطة بالدولة التي لا تعني لكثير من المواطنين شيئا يذكر خاصة في الأرياف، ولا يفكرون فيها، نظرا للأمية المنتشرة، وأيضا للعرف الذي ساد في الذهنية العامة حتى بين أوساط المثقفين؛ فعلى سبيل المثال فإن نسبة كبيرة ممن يقطنون العاصمة صنعا ـ التي تعتبر وجه اليمن في كل شيْءـ لا تكاد نسبة كبيرة من سكانها تعتمد على الدولة في شيء، نسبة كبيرة من طلاب المدارس الأساسية يتعلمون في مدارس أهلية، الخدمات الصحية لا تكاد تُذكر، مياه المنازل من الآبار الجوفية بوايتات النقل، الكهرباء على سوئها يدفع ثمنها المواطنون أضعافا مضاعفة وثمن ما يستهلكه المسئولون أيضا، للأسف الشديد الذين لا يقرع “المحصلون” أبوابهم، بل لقد صار للكثير من الناس مولده الكهربائي الخاص، القضايا الأمنية والشرعية يتم حلها وديا أو عرفيا، فأين الدولة إذن؟!! وللقارئ أن يتخيل أن هذا كله في العاصمة صنعا، فما بالك بالريف القصي؟!! ولذا تختلف ثورة اليمن اختلافا جذريا مع بقية ثورات المنطقة من حيث الغاية والهدف الرئيس، وهو أنه إذا كانت جماهير تونس ومصر قد خرجت باحثة عن الصحة والتعليم وبقية الخدمات فإن الجماهير اليمنية قد خرجت باحثة بالدرجة الأولى عن الدولة نفسها التي لما توجد بعد، ومن ثم الخدمات التي يبحث عنها غيرنا!

ومع هذا كانت سلطتنا السابقة تسعى لتوريثنا ـ كما يورث المتاع ـ لخلفهم ليعيدونا إلى العام 298هـ، وهي السنة التي توفي فيها الإمام يحي بن الحسين المؤسس لدولة الإمامة في اليمن، وورث ابنه أحمد الناصر فيها الحكم تقريبا، وللأسف لو كان لسلطتنا عقل راشد ومستوعب لحقائق التاريخ كما استوعبت تفاصيل الجغرافيا لما فكرت في ذلك، لأن التوريث قد رفض عام 62م أصلا بثورة سبتمبر، التي تعتبر إنسانية في مقامها الأول، وأن مشكلات اليمن التاريخية قد ابتدأت بيحي وأحمد، “يحي بن الحسين وابنه أحمد الناصر من بعده” عام 298هـ، وانتهت في واحدة من أغرب صدف التاريخ بيحي وأحمد “الإمام يحي وابنه الإمام أحمد الناصر من بعده” عام 62م، فهل سيرثها مرة ثانية يحي وأحمد؟ “ابن أخي الرئيس السابق ونجله”؟!!وللأسف فقد أبى الرئيس السابق إلا أن يسلِّم البلاد في العام 2012م أسوأ مما استلمها هو في العام 1978م!! محاولا ـ من حيث لا يدري ـ محو ما كان قد تم إنجازه من بعض الإيجابيات في عهده!!

أتذكر هنا نظرية الفائض لعالم الاجتماع اليمني الكبير الأستاذ الدكتور حمود العودي التي قرأتها قبل سنوات قليلة وأنا أقول أن اليمن يحكم تشاركيا؛ حيث تقرر النظرية أن أي بلد فقير في موارده يصعب فيه الاستبداد والطغيان السياسي إلى حد كبير، خلافا للبلدان الغنية التي يسهل فيها الاستبداد كما هو الشأن في أرض النيل، أو الفرات، هذان بلدان يعطيان فائضا أكبر بجهد أقل، خلافا لليمن على وجه التحديد طبيعتها الجغرافية وتضاريسها الوعرة تنتج فائضا أقل بجهد أكبر؛ ولذا فقد شهد بلدا النيل والفرات “مصر والعراق” أكبر سلطات الاستبداد التاريخي كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك من خلال قصتي فرعون والنمرود، للارتباط بين طبيعة الأرض المنتجة والشعب المكافح، والديكتاتور المتسلط،فيما لم تتحكم باليمن القريبة منهما جغرافيا أية قوى أو سلطة أبدا؛ بل على العكس من ذلك، لقد أقامت خلال فترات التسلط تينك أو قريبا منها واحدة من أعرق الحضارات الإنسانية التي أشار إليها القرآن الكريم أيضا في قصة سبأ؛ ثم إن ما تلاها من الفترات التاريخية وحتى اليوم لم تستطع أية قوى أن تتحكم بزمام الأمور كما هو الشأن في كثير من الدول، بل لقد بقي الوضع التاريخي لمئات السنين في اليمن إلى مشهد المغالبة والاعتراك بين السلطات المتعاقبة من جهة وبين الشعب من جهة ثانية أقرب منه إلى أي توصيف آخر، وبقدر ما نعتبر ذلك مثلبة في تاريخ هذا البلد بقدر ما يكون ـ أيضا من وجه آخر ـ نضالا ومقاومة في وجه الطغيان.

مثال آخر ونحن بصدد الحديث عن نظرية الفائض، أوربا نفسها كاملة شهدت من صنوف الاستبداد والقهر في عصور الإقطاع ما يفوق الوصف، ما عدا أرض اليونان فقط. ولو دققنا في السبب لوجدنا أن ذلك راجع إلى طبيعة البلاد نفسها التي لا تعتبر قابلة للاستبداد، هي أقرب إلى اليمن من حيث تضاريسها وجغرافيتها منه إلى أية دولة أخرى في أوربا نفسها.. بمعنى أنها تنتج فائضا أقل بجهد أكبر، خلافا لبقية بلدان أوربا التي تنتج فائضا أكبر بجهد أقل، ولذا فمثلما كانت اليونان “كعبة” الديمقراطية”منذ فجر التارخ في الغرب،نظرا للحاجة الاجتماعية التي تفرضها الحياة العامة هناك، فإن اليمن ـ أيضا ومنذ فجر التاريخ ـ هي ـ أيضا ـ “كعبة” الشورى في بلاد الشرق التي أشار إليها القرآن الكريم في سورة النمل، غير أن من يعي حقائق التاريخ قليل!!

ولا أنسى الإشارة إلى أن النظرية اليوم قد لا تنطبق بصورة متكاملة على البلدين نظرا لتطور مصادر الدخل والإنتاج وتعدد مواردهما للشعوب، غير أن الصورة في مجموعها الكلي ينبغي ألا تغيب عن الذهن.

أؤكد مرة أخرى على أهمية الذهنية التشاركية في العملية السياسية التي ينبغي ألا تغيب عن الذهن لدى حكام اليمن القادمين، وعلى أن الفرز الحاصل في مختلف التكوينات الاجتماعية اليمنية هو حتمية تاريخية،وليس وليد اليوم ولن ينقطع نسله عن الغد، قد يؤدي هذا التنوع مستقبلا إلى “الانتخاب الطبيعي” وفقا لرؤية “دوركايم” ويبقى أمر استيعاب هذا التنوع هو الرهان الأهم في أية مسيرة سياسية قادمة، وبما يخدم الدولة والمجتمع والشعب لا بما يدمرها. وبالنهاية ما تنوعنا بتنوع الهند أو ألمانيا أو أمريكا، أو حتى سويسرا الصغيرة الحجم، وعلينا أن نجعل منه رافدا ثقافيا وحضاريا ليمن جديد، بإرادة سياسية تستغل نظرية “الضرب والحديد ملتهب” ليسهل تشكيله، أما إذا برد فهيهات أن يتشكل، ولأن الدول لم تتشكل ـ في الأصل ـ إلا عقب صراعات دامية وخسائر فادحة، وما تاريخ أوربا بحروبها وصراعاتها المريرة عنا ببعيد، وحسب تعبير “لينين” إن الدولة هي نتاج صراعات الأطراف بداخلها”.

" رأي اليوم "