الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٦:٤٣ مساءً

ما ينبغي على الغفوري أن يعلمه في كل حين

د.عبد الوهاب الديلمي
السبت ، ١٠ يناير ٢٠١٥ الساعة ١١:٣٨ صباحاً
وقع في يدي ثلاثة مقالات: الأول بعنوان: "ما ينبغي أن يعلمه الرسول الليلة"، والثاني بعنوان: "ما ينبغي على الرسول أن يعلمه غداً"، والثالث بعنوان: "ما ينبغي أن يعلمه الرسول بعد غد"، وعليها اسم: "مروان الغفوري".
وأنا لم يسبق لي معرفة بصاحب هذا الاسم لا من قريب ولا من بعيد، وسواء أكان هذا الاسم لشخص معين، أو أنه اسم وهمي، أو أن صاحب المقالات انتحل شخصية غير شخصيته، فكل هذا لا يهمني، لأنه ليس بيني وبين شخص عداوة شخصية، وإنما يهمني الكلام الذي احتوته هذه المقالات.
وأنا كنت بعد اطلاعي على المقال الأول، وقبل صدور الأخيرين، كتبت رسالة باسم الشخص المذكور "مروان الغفوري"، وطلبت منه الاعتذار عما صدر منه، نظراً لكون الكلام فيه إساءات بالغة إلى الله عز وجل، وإلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكنت حريصاً على أن يوجه اعتذاراً، ويبيّن الدوافع التي حملته على كتابة ذلك، ويرد على الذين نقل عنهم كلاماً غير لائق.
غير أني فوجئت بنشره للمقالين الآخرين دون أن يستجيب لطلب الاعتذار، وكان المقالان الأخيران على منوال المقال السابق أو أسوأ منه.
والمقالات فيها من الإسفاف والانحطاط والبعد عن الأدب الواجب مع الله تعالى ورسوله وصحابة رسوله، ما لا يمكن أن يصدر عمّن يعرف من الإسلام إلاّ النزر القليل.
وأنا لا يسعفني الوقت للرد على كل ما جاء في مقالاته، لكثرة ما فيها من اللغو والباطل، ولكني سأختار فقط فقرتين جاءتا في مقاله الأخير، والحديث عنهما يغني عن الحديث عن بقية ما ورد في سائر المقالات، لأنهما يكشفان عن حقيقة ما يدور بخاطر الكاتب وقناعاته، وهذا ما هو إلاّ تنبيه لصاحب المقالات، لعل الله عز وجل أن يأخذ على يديه فيتوب عمّا بدر منه، قبل أن يحاط بسخط الله عز وجل ونقمته، إضافة إلى أن في ذلك تحذيراً لمن يقرأ هذه المقالات، أو يبلغه عنها شيء من أن يصدقها، أو يروج لها، وأكون بذلك قد أبرأت ذمتي أمام الله عز وجل، وهو الذي يهمني من هذا الأمر، وإذا لم يستجب فهذا شأنه، وأنا إن شاء الله لن أقرأ له شيئاً بعد اليوم.
وقبل الإشارة إلى الفقرتين الواردتين في كلامه، واللتين أريد الحديث عنهما، ألفت نظر القارئ إلى العبارات التي عنون بها مقالاته، وهي عبارة: "ما ينبغي أن يعلمه الرسول.."
وهل مراده من هذه العبارة أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يجهل أموراً جاء هو يعلمه إياها، وقد قال الله عز وجل في شأن تعليمه إياه:
(وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)[النساء:113].
وقد علّمه الله عز وجل كل ما تحتاجه البشرية في أمر دينها ودنياها، إذا هي استجابت وخضعت لما أرشدها إليه، بل أخبر عن الله عز وجل بأمور غيبية ما كان يعلمها أهل زمانه، فقد أخبره بكثير من أمور الغيب الماضية، كما جاءت في الكتاب العزيز، والتي لم يُعرف عن أحد من أهل زمانه من أهل الكتاب إنكار أيّ شيء مما أخبر به مما يتعلق بأخبار اليهود والنصارى وأنبيائهم، مع شدة عداوتهم له، كما أخبر عن أمور كانت تحدث في زمانه، ويخبر عنها قبل أن يخبره أصحابها عنها، وأخبر عن أحداثٍ ستكون في المستقبل، وقد وقع كثير منها كما أخبر عنها، وما تزال الأيام تكشف الكثير عمَّا أخبر عن وقوعه من الفتن وغيرها، وهذا دليل مدى إكرام الله عز وجل له بإطلاعه على أمور من أمور الغيب التي لا يعلمها إلاّ الله عز وجل، وقد أشار الله عز وجل إلى مثل ذلك في قوله:
(عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) [الجن:26-28].
وممَّا أخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن وقوعه في المستقبل: إخباره عن الفتن والملاحم، التي ألّفت فيها كتب، بل أطلعه الله عز وجل على أحوال أهل الجنة وأهل النار، عندما عُرج به إلى حيث شاء الله عز وجل.
وكان يقول: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرا»( ).
وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم –في حديث طويل- أنه قام على المنبر، فذكر الساعة، وذكر أن فيها أموراً عظاماً، ثم قال: «مَن أحب أن يسأل عن شيء فليسأل، فلا تسألوني عن شيء إلاّ أخبرتكم...»( ).
وقال: «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء وحُقّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلاّ وملك واضع جبهته لله ساجداً، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفُرش، ولخرجتم إلى الصُعُدات تجأرون إلى الله»( ).
أمّا ما جاء من الإسفاف في المقالات المذكورة، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما تعلمها، ولا هو في حاجة إلى تعلّمها، لما تحمل من الزور والبهتان، التي صان الله عز وجل عنها رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما الفقرتان اللتان أحب الإشارة إليهما:
فأقول أولاً:
لقد كانت الحيرة أخذت مني مأخذها عندما قرأت المقال الأول الذي جاء مليئاً بالسخرية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بعبارات فيها سقوط وإسفاف، لا يقال مثلها في حق رجل عادي، فكيف بحق من اختاره الله ليكون خاتم رسله، وأعطاه من الخصائص والمكرمات في الدنيا والآخرة ما لم يعط غيره، وكانت سيرته كلها مليئة بالخير والعطاء، ولم يجد أعداؤه -الذين كانوا أشد عداوة له- فيه ولا في حياته مغمزاً، سوى الافتراءات التي مبعثها محاولة إبطال دعواه الرسالة، وقد باؤوا بالفشل، لأن الله عز وجل أيده بآيات باهرات، وحجج دامغات، وسيرة ناصعة، يسقط معها كل تقوّل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكنت أتساءل عن الدوافع التي حملت صاحب المقال على التحامل على خير الخلق صلى الله عليه وآله وسلم.
غير أن بعض العبارات التي جاءت في المقالين اللاحقين أزالت عني الحيرة، وأذهبت الدهشة، عندما قرأت تفسير الكاتب في المقال الأخير لقول الله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [البقرة:62].

فقد قال عن هذه الآية بالحرف الواحد:
"وبالرغم من أنك آخر الرسل، إلاّ أنَّ الآية السابقة كانت مجلجلة، ولأول مرة سمع الناس كلاماً على لسان آخر الرسل يقول: إن الإيمان بمحمد: أي به، ليس شرطاً لدخول الجنة، يكفي الإيمان بوجود الله، والعمل الصالح، بكل تنويعات العمل الصالح، من حراثة الأرض، حتى صناعة البنسلين، يكفي الشرطان لعبور الصراط، واجتياز أسوار الجنة" انتهى النص المراد من كلام الكاتب.
وسأدع الحديث عن سائر الهراء الذي جاء في المقالات الأخرى، والذي ورد فيها التطاول على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأكتفي بالرد على هذا النص، الذي فيه الحجة الدامغة التي من خلالها يستطيع كل قارئ أن يعرف حقيقة الكاتب، مع الإشارة فيما بعد إلى الفقرة الثانية.
فالتفسير المذكور للآية المذكورة إما أن يكون صاحبه يجهل النصوص الأخرى الواردة في القرآن الكريم، التي تبين المراد من هذه الآية –ولا أظنه كذلك- وإما أنه يعرفها، ولكنه تعمد إلى التجاسر على التفسير المذكور للآية المذكورة، لهوى في نفسه، ولخدمة هدف منحط.
فمن المعلوم أن القرآن يفسّر بعضه بعضاً، والرجوع في تفسير أيّ آية ورد توضيحها في مقام آخر من القرآن الكريم، لا يحتاج المرء بعده إلى أن يرجع في تفسيرها إلى أحد، لأن الله عز وجل الذي أنزل القرآن الكريم قد تولّى بنفسه تفسير ذلك:
(وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) [النساء:87].
وخير ما يُفسَّر به القرآن، القرآن نفسه.
فمن المعلوم أن اليهود والنصارى كانت كل طائفة منهما تدعي أنه لا يدخل الجنة أحد إلاّ من كان هوداً أو نصارى، كما قال تعالى عنهم:
(وقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ ) [البقرة:111].
فأبطل الله عز وجل دعواهم بقوله:
( تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة:111].
وعلى هذا فالآية التي أوردها الكاتب، تعني إبطال دعوى الحق عند هذه الطوائف، وأنه لا عبرة بأي ملّة بعد مبعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلاَّ مَن صدق إيمانه بالله، وعمل صالحاً، والإيمان بالله صار معلوماً من النصوص الأخرى: أَنه لا يتم إلاّ بالإيمان بكل ما أوجب الله تعالى الإيمان به، وكذلك العمل الصالح قد جاءت النصوص تفصّل هذه الأعمال التي أوضحت أركان الإسلام، وغيرها من الواجبات.
ومن هذه الآيات قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ۚ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) [النساء:136].
وقد صرح القرآن بكفر من يقول "عزير ابن الله" وهم اليهود.
وصرح بكفر من يقول: (الله ثالث ثلاثة)، ويقول: (المسيح ابن الله) وهم النصارى.
وذكر كثيراً من وقاحاتهم، وتطاولهم على الذات الإلهية، وذلك في مثل قوله تعالى:
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ) [المائدة:18].
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) [المائدة:64].
(لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) [آل عمران:181].
وفي مواطن أخرى صرح الله عز وجل بكفر اليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك في مثل قوله تعالى:
(أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) [الحشر:11].
(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ()رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً)
[البينة:1-2].
وفي اعتقادهم الباطل في عيسى وأمه عليهما السلام، قال سبحانه:
(لقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [المائدة:73].
ولمّا جاء نصارى نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجادلوه في شأن عيسى عليه السلام دعاهم إلى المباهلة، غير أنهم نكصوا لعلمهم بأنهم على باطل، ويقول الله عز وجل في ذلك:
(فمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) [آل عمران:61].
ثم أمره الله عز وجل أن يدعو أهل الكتاب –وهو مصطلح يشمل اليهود والنصارى- إلى توحيد الله وحده، ونبذ كل معبود سواه، فقال عز وجل:
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران:64].
أي أنهم إذا لم ينبذوا ما هم عليه فليسوا بمسلمين، وليس بين الإسلام والكفر واسطة.
ويزيد هذا الأمر توضيحاً، قوله سبحانه في موطن آخر:
(وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران:85].
فهل الذي يظل على غير الإسلام بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من اليهود والنصارى بعد نزول هذه الآية يُقال عنه إِنه من أهل الجنة؟
وهل بقي دينٌ يُعترَف به لمن يدعي لله سبحانه ولداً؟!!! 
ويقول عز وجل:
(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) [آل عمران:19-20].
وتأمّل قوله: (فإن أسلموا فقد اهتدوا) فإن فيها دلالة واضحة على أنهم ليسوا على شيء من الحق حتى يسلموا.
ومن أوضح الآيات التي حكم الله عز وجل فيها بكفر من يؤمن ببعض الرسل دون بعض -وهم اليهود والنصارى- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذابًا مُهِينًا (151)}[النساء:150-151].
وتأمل في قوله سبحانه: (أولئك هم الكافرون حقا...) أي إن لم يكن هؤلاء هم الكافرين فمن يكون؟
وفي مواطن آخر يوجب الله عز وجل على الناس جميعاً الإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى:
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿158﴾ [الأعراف:158].
وتأمَّل في التعبير بـ (يا أيها الناس) الشامل لكل الناس، بدون استثناء.
وصح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة –يهودي ولا نصراني- ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به، إلاّ كان من أصحاب النار»( ).
ثم إن الأمر لا يقف عند هذا الحدّ، أعني قول صاحب المقال: "عدم الحاجة إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مادام الإنسان مؤمناً، ويعمل صالحاً.
بل إن الإيمان الذي يقصده الكاتب، والعمل الصالح الذي هو الحرث، وصناعة البنسلين، وما بينهما سيغني –حسب هذا الفهم الفاسد- عن الإيمان بالقرآن، وسائر الكتب السماوية، وبجميع الرسل، وبالملائكة، ... الخ.
لأن مطلق الإيمان، والعمل الصالح قد حصل بدون الإيمان بهذه الأمور، وهنا سيهدِر هذا الفهم كل فرائض الإسلام وواجباته العينية والكفائية، وأخلاقه وآدابه، ولا يبقى حجة للكاتب في الاستنكار على الذين يعيثون في الأرض فساداً من سفك الدماء، واستحلال المحرمات وغير ذلك...، ما دام قد حصل منهم مطلق الإيمان، والحرث، وصناعة البنسلين، وماذا بقي للإسلام بعد ذلك، وأيّ قيمة للحياة بعد ذلك؟
أما الفقرة الثانية التي أحب الإشارة إليها، فهي أن الكاتب أثنى في مقام آخر على عمر رضي الله عنه، ومن ثنائه عليه، قوله عنه: أنه: "مارس أول عملية علمانية"!!!
وهذه العبارة أيضاً كشفت حقيقة ما تنطوي عليه نفس الكاتب.
فبدلاً من أن يربط أعمال عمر بالإسلام، وتأثّر عمر بتربية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأن عظمة الإسلام تجلت في أعمال عمر وإبداعاته، وأن عمر كان عبارة عن أثر من آثار هذا الدين العظيم، نسي كل ذلك، وذهب يشيد بالعلمانية.
مع أنَّ "العلمانية" مصطلح معروف نشأته، ومدلوله، والعلمانية هي التي لم تترك للدّين أيَّ سلطان على حياة الناس، إلاّ في زاوية محصورة، كما تعرف الظروف التي نشأت فيها العلمانية، وأسباب نشوئها، والأوساط التي نشأت فيه: بعد الصراع الكنسي في الغرب بين العلم والكنيسة، وهي أسباب لا وجود لها في دين الإسلام، الذي يدعو إلى العلم، ويشجع عليه، ويرفع مقام أهله، ويثيب عليه، والمنهج الذي سار عليه عمر رضي الله عنه بعيد كل البعد عن مفهوم العلمانية وأهدافها ومنهجها، فهل يريد الكاتب أن يذم عمر رضي الله عنه أو يمدحه؟ وحاشاه أن يكون من فصيلة العلمانيين، بل كان ثمرة من ثمار تربية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنها الفتنة بالغرب، وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القائل:
«لتتبعن سنن مَن كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم» قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن».
وهذا تحذير بالغ في متابعة اليهود والنصارى نظراً لما صاروا عليه من الضلال، بل قد حذر الله عز وجل من طاعتهم، لما يؤول ذلك إلى الخروج من الدين، وذلك في قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ)
[آل عمران:100].
فإذا كان الكاتب وأمثاله –من المفتونين بكلامه- لا يسعهم الخضوع والاستسلام لهذه الأدلة وغيرها للعودة إلى الله عز وجل، وصدق التوبة، وإلاّ فإنه يخشى عليهم.
ونحن نشهد الله عز وجل على البراءة مما جاء في هذه المقالات وأمثالها ممَّا يحمل التحريف الواضح لكل ما تناولته بعين العلمانية، والحقد والكراهية للإسلام ورسوله.
كما نقول: اللهم إنا قد بلغنا، اللهم فاشهد.
وأذيّل هذا التعقيب بذكر الآيات الآتية، التي تتحدث عن أهل الكتاب، دون أيّ تعليق عليها لوضوح دلالتها في الحديث عن اليهود والنصارى، الذين يطلق عليهم في القرآن الكريم مصطلح "أهل الكتاب"، قال الله تعالى:
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [البقرة:89].
وقال تعالى:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ) [آل عمران:23].
وقال تعالى:
(وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (71) [آل عمران:70-71].
وقال سبحانه:
(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران:78].
وقال عز وجل:
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) [آل عمران:98-99].
وقال تعالى:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ) [النساء:44].
وقال عز وجل:
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ ۖ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿19﴾ [المائدة:19].
وقال سبحانه:
(وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكتَبِ ءَامَنُوا وَ اتَّقَوْا لَكفَّرْنَا عَنهُمْ سيِّئَاتهِمْ وَ لأَدْخَلْنَهُمْ جَنَّتِ النَّعِيمِ) [المائدة:65].