يعود تاريخ بناء مدينة السوداء إلى القرن الثامن قبل الميلاد، ويرى الباحث التاريخي الأستاذ سيف الحمادي أن المدينة مرّت بأطوار ثلاثة، إذ كانت في الطور الأول منها مستقلة وذات سيادة، ثم انضمّت إلى الدولة المعينية حيث عاشت حضورا تجاريا ودينيا وصناعيا كبيرا، وفي الطور الأخير ضُمّت مع باقي الدول المعينية إلى مملكة سبأ التي جاء ذكرها في القرآن الكريم.
ويؤكد الباحث الحمّادي في حديثه للجزيرة نت أنّ المدينة عُرفت في النقوش بـ"نشان"، وقد ذكرها المؤرخ الإخباري الحسن بن أحمد الهمداني (توفي بعد 336هـ) في كتابه "الإكليل"، حيث وصفت بأنها مدينة عظيمة، ولها سور عتيد.
وقد سُمِّيت بـ"السوداء" في ٍالعصور المتأخرة -بحسب الحمادي- بسبب أحجارها السوداء، وهو أسلوب معروف في التسمية لدى قبائل اليمن، كما سمّوا مدينة "نشَق" المعينية بـ"البيضاء" للسبب ذاته.
وقد زار المدينة عدد من البعثات الاستكشافية، كان أولها بعثة فرنسية برئاسة المستشرق جوزيف هاليفي عام 1870م، كما تعرضت لعمليات تنقيب متقطعة لم تكتمل.
السوداء اليوم
مثلها مثل بقية الآثار المعينية في بلاد الجوف، تعيش السوداء حالة مزرية، ورغم امتلاء المدينة بالآثار والشواهد التاريخية فإن الزائر لها يندهش حد الذهول لرؤية أطلال المدينة تصفر حولها الريح، وتصفعها الأتربة، ويخيم فيها السكون وكأنها مقبرة قديمة وضعها زوارها في مكان قصيّ لا تصل إليه الذاكرة.
وإلى جانب الخراب الذي شمل المدينة في مختلف معالمها، ثمّة وجعٌ أشدّ إيلاما وأبلغ أثرا تقاسيه المدينة المنسية، يتمثّل في عمليات السطو المستمرة التي يديرها لصوص الآثار الباحثين عن التماثيل والكنوز في عمليات بيع مربحة تتكفل عمليات التهريب النشطة في إبقاء سوقها عامرا.
ويلاحظ الزائر للمدينة -دون عناء- آثار الحفر العشوائي تتمدّد على طول المدينة وعرضها، دون وازع ولا رقيب، وقد وصل الأمر في عمليات الحفر هذه إلى استخدام الجرافات الثقيلة، مما حدا بمجلس النواب في فترة ماضية أن يرسل لجنة برلمانية للوقوف على الوضع الذي تعيشه هذه الآثار، وانتهى الأمر بتقرير مفصل تضمّن في ذيله توصيات ذهبت أدراج الرياح.
وضع مأساوي
يعترف رئيس الهيئة العامة للآثار الأستاذ مهنّد السيّاني للجزيرة نت بمأساوية الوضع الذي وصلت إليه الآثار المعينية في الجوف بشكل عام، معيدا ذلك إلى أسباب عديدة أهمها عدم توفّر الحماية الكافية التي تغطي المساحة المترامية الأطراف التي تقع هذه الآثار في نطاقها، إضافة إلى عدم تفعيل القوانين الخاصة بمكافحة تهريب الآثار.
ومن الأسباب أيضا -والحديث لا يزال للسيّاني- طول الخط الحدودي المنفتح على دول الجوار مما يسهّل عملية التهريب، لكنّ الداهية الدهياء -في نظر السيّاني- هي ادّعاء بعض قبائل المنطقة ملكيتها لبعض المناطق الأثرية والقيام بالسطو عليها في ظل غياب أمني تام، وخاصة في السنوات الأخيرة، مما يجعل مصير المدينة السوداء أكثر سوداوية من ذي قبل، ولا عزاء للتاريخ وعشاق الآثار.