الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٣:٤٣ صباحاً

إيقاعات وجدانية ,,, من وحي الثورة

عباس القاضي
الاربعاء ، ١٦ نوفمبر ٢٠١١ الساعة ١١:٤٠ صباحاً
يعيش كالآخرين من أمثاله من المهمشين داخل غرفة من الصفيح, هي كل شيء, مجلسه ومعيشته ومكان نومه ,مع زوجته "علياء" لا يعرف عن نسبه ولا من أين جاء, كل ما يعرفه أنه يُنادَى ب " عبده غَبَش " يجيد الضرب على المَرفَع ( الطبل ), يذهب إلى الأعراس, فيعيش يومه, يأكل ويشرب ويخزن ( يتناول القات ) ويأخذ من هذا حبة سيجارة ومن ذاك مصروف الجيب ومن صاحب العرس ألفين ريال يتقاسمه مع صاحب المرفع, فعندما يصل المجابرون والمعازيم بمركباتهم, يقفون حتى يأتي " عبده غَبَش " ليضرب بالمرفع بإيقاع مميز لا تحلو الأفراح إلا به فيسيرون خلفه ,, فيُركِّز على أوجَه الناس فيهم, فيقابله وهو يضرب ماشيا إلى الخلف يغمض عينيه محركا رأسه دلالة على حالة من الطرب لا توصف ,وقبل أن يدخل هذا الوجيه بيت العرس, ينظر إليه " عبده غَبَش " مستجديا عطاءه فيدخل هذا يده إلى جيبه فتخرج بيضاء بما يسر ه , وهكذا يستمر الفرح لذلك العريس مرة واحدة في العمر, بينما يتجدد فرح " عبده غَبَش " في كل عرس في المنطقة التي تحيط بسكنه. وسكنه يقع في منحدر بين قريتين و بالقرب منه سوق مع مجموعة من أمثاله .

بقية الأيام تقوم بالدور زوجته علياء التي تمر في القرى والسوق لتتسول كل شيء الطعام والفواكه والخضار والحلوى والسيجارة ثم تعود بالكيس وفيه مالا يخطر على بال وهو يعرف موسم الفواكه والخضار من خلال محتويات الكيس التي تعود به علياء , وهذا الكيس من وجهة نظري أرقى وأنقى من " كيس الدعاية " الذي يحمله ابن " القمعري " الذي لا يشبه أباه شكلا وإنما يشبهه سلوكا.

وعلياء رغم الجوع الذي تشعر به بسبب قطعها المسافات إلا أنها تصبر حتى تعود إلى بيتها لتناول غداءها حتى ولو كان عصرا, فهي تحب زوجها فقد عاشت معه قصة حب عنيفة قبل زواجها من عبده غبش وهربت معه دون علم أهلها رغم أنهم لن يمانع أهلها من زواجه به, إذا جاء وطلبها منهم, إلا أن هذه الحركة جزء من حياتهم المليئة بالغموض والأسرار التي لا تُدرَك من قِبَل الآخرين حتى موتهم لا يعرف أحدا متى يموتون وأين يُقبَرون أو هكذا يتهيأ للآخرين.

وضعت الكيس علياء ومازال عبده غبش شبه نائم توقضه ليقف على حصيلة اليوم الذي يتلذذ بمشاهدته قبل فصل مكوناته, قم يا عبده شوف ايش
( انظر ماذا) جبتلك( أحضرت لك ) حقك الأرنبة –هكذا يحب أن يدلعها, يقوم عبده يفتح عين ويغمض أخرى ويحرك رأسه وهذه الحركة التي تذوبها ,تقول له : مش وقته أني هالك من الجوع , فيمسك بتلابيب الكيس ولأنه عميق يمد يده التي لم يصل لها الماء منذ أيام فيتحسس وهو مغمض العينين,,آآه, رز! من أين الرز يا علياء؟ قالت: من مطعم الحشاء, أعطاني صاحب المطعم صحن, ثم انتظرت أراقب الزبائن إذا تبقى شيئا أسكبه للكيس,,إييه يا علياء أنا قلت لك لا تأخذي أي شيء طازج أنا يعجبني السؤَّاري(المتبقي), وهذا الطبيخ من أين يا علياء؟ من المطعم الذي أمامه غنم يقولوا له مطعم السعادة,,خبز , سلطة سحاوق, بقايا لحم ودجاج, كله ينفع يا علياء اليوم شيقع( سيكون) غداء حناني طناني (غداء شهي), والقات أشوفه كثير ومليح, قالت : مررت على جميع المقاوته وأعطوني الكثير هذه الأيام تخضيرة (موسم) يا عبده, قال: شيقع اليوم قيله (مقيل) وسمرة.

قلت بغنج : هيا , عبده, أنت راقد من الصبح وأنا أطوف من القرية إلى السوق,,ليس لديهم أوعية ليفرغوا فيها الطعام , أخرجوا القات والسيجارة والطرمبة (نوع من الحلوى المفضلة لديهم), ثم تغدوا وهم في غاية السعادة يتمنى أحدهم أن تسبق يد صاحبه يده , بعدها أكلوا الطرمبة, ثم استعدوا للمقيل الذي يبدأ نهارا ويستمر حتى ينتهي القات ولو كان صباح اليوم التالي, ليس لديهم ارتباطات ولا زيارات وآلة التسجيل ثالثهم, هو عليه يركب الشريط وهي عليها تقلبه( تغير الوجه الثاني من الشريط).

خلينا نفتهن(نرتاح) عاد الجهال ما جاؤش( لم نخلف أولاد) قالها وهو يمسك أول عشب بيده اليسرى ويخَبِطَه بالأصبع الوسطى من يمينه, وعادة يتكئون على حجر مغطاة بقطعة قماش هو يتكئ على اليسار وهي على اليمين وكتفاهما متلاصقان ويحتكان برأسيهما عندما تبلغ بهما النشوة مبلغهما وأحيانا إذا كانت الأغنية راقصة يقومان فيرقصان ويكون الرقص في مستوى النغم ولكنها لا تخلو من حركاته الصبيانية والذي يعجبها فيزيدها دلالا , تعبا من الرقص فعادوا للجلوس.

قالت له: عبده قال لها روح عبده,,قالت له: من قلبك يا عبده, أخاف تنظر إلى أخرى فتعجبك, أَقسَم لها أن لا يفعل,,كما حلف لها أنه لم يعرف أحدا قبلها ولكن بسبب القات المخلوط تهيأ لها ذلك, فصاحت بالبكاء قائلة: وااعبده سوف تنساني وااني لمن وووعبده ,,انكب عليها وهو يبكي أكثر منها فالقات " عَمِل عَمَلُه" والله العظيم ما أنسيك ياعلياء ,أنت الشاقي واللاقي حقي يا علياء أنت عندي الأرض ووديانها, وأنتِ السماء وأجرامها, تركتِ أهلك من أجلي الله يقطعني إذا أنا شَعمَلِه(سوف افعلها) وظلا ينتحبان حتى بُحا صوتُهما و أفاقا على نهاية الشريط,

فقال وهو يبكي: قومي غيري الشريط يا علياء , قالت له :نسيت أن تركيب الشريط عليك, والقلب هو عليَّ قال لها: صح ,صح نسيت وكل واحد ينظر لصاحبه فكرعا ( أطلقا) بالضحكة حتى كاد أن يخرج القات من أفواههما, رَكَّب عبده الشريط الجديد هذه المرَّة للفنان فيصل علوي جعلهما يحسنان من جلستهما ويمسحان دموعهما ثم عادا لما كانوا من انسجام ونشوة مع سلطان الغناء اللحجي وهو يلاعب العود يصاحبه الإيقاع المحبب السريع المشهور بالشَّرح اللحجي ولا يهمهما الكلمات بدليل أنه الآن في أجمل مقطع لديهم , وهو يقول : غشيم إلا غشيم والله العظيم غشيم يلعن أبوه غشيم,,,وهم يرددون والنشوة تعتريهم من رؤوسهم حتى أخمص قدميهم ويحتكان بكتفيهما ورأسيهما وهما مغمضا العينين يرددان غشيم والله غشيم يلعن أبوه غشيم .

نترك " عبده غبش" وزوجته علياء وهما في هذه الحالة من الطرب, لنقارن بين حياتهما وحياة عبده آخر هذا الذي اتفقنا على تسميته ب " القمعري" الذي يسكن القصور ويركب السيارات الفارهة وتلحقه أُخَر ملأى بالمرافقين والحرس مقابل كلمة باطل يقولها لوسائل الإعلام فيها الكذب والزور والبهتان, يحول الجلاد إلى ضحية ويدعي بأن الضحية ماتت بقرونها التي تركته في بيوتها , يقول أنا أحب فلان ثم يتهمه وأحترم فلان ثم يفتري عليه بمعنى أنه يسُوق الحق بعصا الباطل,,ولكن إذا اقتربت منه وعرفت حياته , تجدها في نكد ونصب ومشقة يتمنى أن تكون حياته مثل حياة " عبده غَبَش " هذا الذي :

يبكي ويضحك لا حزنا ولا فرحا****كعاشق خط سطرا في الهواء ومحا