الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٧:١٨ مساءً

من حزب كبير إلى مخزن للواقيات!

مروان الغفوري
الجمعة ، ١٣ فبراير ٢٠١٥ الساعة ٠٨:٢٦ مساءً
مؤخراً سخر عبد الملك الحوثي من مثقفي تعِز، قائلاً إنهم بلا طموح. في الأشهر الماضية عزا عبد الملك انتصاراته إلى طموحه مسنوداً بإرادة الإله. عرّف الطموح، في حديثه الموجّه للنخب الثقافية في تعِز، بالرغبة في حكم اليمن.

بالنسبة له فالمثقفون الذين قالوا إن الحركة الحوثية خطر على التراكم المدني والثقافي الذي أنجزته تعِز على مرّ الأزمان هم مناطقيون بلا طموح. وضح من كلماته أنه يرى في الممانعة التعزيّة لطموحِه مناطقية ضيقة الخيال. فالطريق الأفضل، يقول عبد الملك، أن يطمح أهل تعِز إلى حكم صعدة، وأن يطمح أهل صعدة إلى اقتحام تعِز. ثم ليصطدم الطموحان ببعضهما و"من غلب عرَب"، بالتعبير التعزّي الدارج.
يقول عبد الملك الحوثي دائماً تلك التفاهات التي لم تعد تضحِكُ أحداً.

أما الرجل الجيّد فيطمح لوطنِ لكل الناس، بديموقراطية تضرب جبال صعدة ويسمع رجعها على رمال مدينة الشحر عند المحيط. لحياة جديدة تنشأ من الأسفل إلى الأعلى.
على أن هذا الأمر ليس ما أريد أن أكتب عنه الليلة..

ففي الأيام الفائتة كتب الشاب غسان أبو لحوم رسالة توسّل إلى اللجان الثورية في صنعاء راجياً منهم إعادة ما نهبوه من مخازن شركته الصغيرة. ذكرهم بالإله والقرآن والأخلاق الحميدة، ولم يسمع بعد ذلك حسّاً.
يقرأ الحوثيون القرآن وهم يقتحمون المخازن. لكن ما إن يغادروها فإنهم يتوقفون عن القراءة، وينشغلون بالأحمال.

أما فتحي توفيق عبد الرحيم، الرجل الذي أطلق عليه رفاقه البرلمانيون قبل الثورة لقب أحمد عز اليمن، فقد حلّ أخيراً ضيفاً في صعدة. في صعدة يوجد مكان شبيه بعش الذئب الذي اتخذه هتلر إبّان الحرب. دخل فتحي توفيق عبد الرحيم عش الذئب وقدّم الولاء الجديد لسيد مرّان، واعداً إياه على أن يجرّ في المرّة القادمة تجّاراً آخرين من تعِز.

يعمل فتحي توفيق عبد الرحيم حالياً كـ"كوندوم" من الفئة الجديدة، غير المثقّبة.
قبل دخول صنعاء استخدم الحوثي الجيل الأول من الواقيات، أغلبها شعرت مؤخراً باستغنائه عنها وبدت عليها ملامح الإحباط والغضب. حتى إن بعضهم صار يتحدث بشكل لافت عن الحق والحرّية.
وكان منظراً مخزياً للغاية عندما جمع الحوثي كل آلته العسكرية محاصراً صنعاء وكانت الواجهة الأمامية لجيشوه تتشكل من "واقيات على بنادق". لقد ركّب الحوثي الكوندومس على مواسير البندقية، وهو ما منح سلاحه الطهارة لبعض الوقت.

يتأهب الجيل الجديد من "اللاتيكس" للعمل الدؤوب مع الحوثي بعد أن بدا بحاجة ملحّة لجيل محكم وأكثر فعالية من الواقيات، وبمقاسات تتناسب مع "طموحه".
في هذه الصورة يبدو فتحي توفيق عبد الرحيم واقياً جيّداً، من ذلك النوع الذي لا ينبغي أن تسأل عن ثمنه بالنظر إلى كفاءته.

لم ير قائد المسيرة القرآنية في توفيق عبد الرحيم سوى رجل وطني شريف. أما اللصوص والمفسدون الذي يلاحقهم عبد الملك الحوثي فهم كل من قال كلمة جيّدة حول ثورة فبراير، ومن وقف إلى جوارِها.
على أن هذا ليس ما أريد أن أتحدث عنه الليلة ..

فبعد أن خرجت من مطعم تركي نسيتُ حقيبتي الخاصة في شارع فرعي نصف مضاء. كنت قد أعدت ترتيب بعض الأشياء في شنطة السيارة، فسقطت الحقيبة. من بين الأشياء التي أعدت وضعها في السيارة لم تكن حقيبتي.

على بعد 14 كيلو متراً تذكرت الحقيبة، وكان ليل المدينة ماطراً وكئيباً. عدت إلى المكان نفسه ولم أجد أثراً للحقيبة. قلتُ لنفسي "لا يفقد المرء أشياء هُنا" ثم واصلت البحث. وعلى عتبة قريبة من المكان رأيت ورقة تحت حجر. أخذت الورقة وقرأتها على ضوء الموبايل:
"عزيزي، أنا أندرياس. وجدت حقيبتك هُنا، لا أدري ما بداخلها. أسكن في العنوان الفلاني، وأتواجد في المنزل من الساعة .. إلى الساعة. حظاً سعيداً".

وعندما سألتني زوجتي عن ذلك الشخص قلتُ لها إنه شاب ألماني، مثل سائر البشر الطيبين، ابتسم وأعطاني الحقيبة ولم يطرح سؤالاً. في الأيام اللاحقة رويت القصة لألمان كثيرين فأبدوا استغراباً كبيراً لاستغرابي! وبالنسبة لهم فهي قصة تحدث كل ثانية، ولا تستحق حتى عناء التذكّر.
لو دخلت المسيرة القرآنية إلى بلد متحضّر ستحوّل سكانه إلى لصوص وقتلة.

أندرياس لا يسرق الناس، حتى إنه لا يأبه ما إذا كان الإله سيشعر بالسعادة أو الغضب. يدرك أندرياس في ضميره أن ألم الآخرين مقدّس، وأنه لا ينبغي لأشيائهم أن تضيع.
من الصعب شرح القيمة النبيلة التي صنعت أندرياس أمام رجل كعبد الملك الحوثي. فالحوثي لم يسبق أن تعرّف على الأخلاق في صورتها المعاصرة.

أسرد هذه القصة لأجل الشاب المكروب غسان أبو لحوم، حتى لا يفقد ثقته بالعالم، لا للحوثي.
غير أن هذا ليس ما أريد أن أتحدث عنه الليلة.

يلبس مروان الغفوري نظارة طبّية سميكة الإطار. ولأنه طبيب قلب فلا يمر عليه أسبوع دون أن يكون قد خاض عملية إعادة إنعاش قلب ميّت لمريض.
في الأشهر الثلاثة الماضية تكررت هذه القصة ثلاث مرّات:
أثناء عمليات الإنعاش تسقط النظارة بين أشياء المريض. ولأنها سميكة تشبه نظارات كبار السن فإنها توضع ضمن أشيائه، وغالباً ما يكون المريض تحت الإنعاش كبيراً في السن. أتحسس وجهي بعد نهاية الدوام عندما أكون في الأسنسير. أقول لنفسي لا بأس ستعود النظارة بعد أيام، وسيحضرها شخص ما لا يعرف شيئاً عن المسيرات القرآنية. الذين أعجبوا بالمسيرة القرآنية لا يعيدون أشياء البشر، ولا يغمرون المدن سوى بالحزن والتربّص.

وعلى سبيل المصادفة أجد، بعد أيام، أمام موظفة الرسيبشن كيساً أنيقاً شفافاً مكتوب عليه باللغة الألمانية "هذه النظارة لا تخص السيدة ...".
أسأل أحياناً، فيقال لي أن شابة قدمت من المدينة الفلانية وأحضرت النظارة قائلة إنها وجدتها ضمن أشياء جدّتها، وأنها لا تخصها.

عبد الملك الحوثي لا يملك القدرة الذهنية الكافية لتخيل هذه المستويات من أخلاق البشر، ولا لتحليلها.
بدلاً عن ذلك يصمم شعار حركته على أساس الموت لكل هؤلاء.
على أني إنما أريد أن أتحدث عن شيء آخر..
يشغلني حالياً سؤال حول انهيار المؤتمر الشعبي العام على الطريقة التي رأيناها. حوّل صالح المؤتمر، الحزب الكبير، إلى مخزن آلات. وبين الحين والآخر يهدي بعض تلك الآلات لعبد الملك الحوثي، فيستخدمها الأخير ولا يعيدها.

ما إن تقع الآلة في يد صانع الساعات الأعمى حتى تصبح ملكاً له. لأجل أن يهزم حميد الأحمر قوّض صالح حزبه، ولأجل أن يهزم على محسن الأحمر قوض الدولة. وفي محاولته الظهور كزعيم، بعد سقوطه المدوّي، قدّم نفسه للحوثي كواقِ ذكري. ولا يوجد مستوى أكثر انحطاطاً من ذلك.
يتحرك عبد الملك الحوثي ضمن نفس الشبكة التي كانت تخص صالح. ولأنه أصبح خارج الموجة التاريخية فسرعان ما تبادر قيادات حزبه إلى بيع ولائها للسيد الجديد. لقد عثر عبد الملك الحوثي في مخزن صالح على الآلات التي يريدها وأصبحت ملكاً له.

اقتحم الحوثي مطعم كنتاكي، نسبة من أسهمه تعود للأحمر، وكان بالنسبة للأحمر مجرّد مطعم. لكن الاقتحام الكبير هو ما فعله الحوثي بحق المؤتمر الشعبي العام. فقد أجرى عملية نقل لكل المتاع والآلات إلى داخل حركته، كما ينقل كل شيء. وكانت أول مؤسسة أفرغها الحوثي بالكامل إلى حوزته هو المؤتمر الشعبي العام. بقيت من المؤتمر ثلّة بيزنطية منفصلة عن الواقع يمكن للحوثي أن يشحنها في شاص واحد، في كل الأوقات.

نشأ المؤتمر الشعبي العام كرابطة مصالح، وبقيت تلك السمة لازمة عميقة في تكوينه النفسي والفلسفي. وفي أماكن كثيرة في العالم اندمجت رابطات المصالح مع التشكيلات الميليشوية واختفت هويتها السابقة كلّياً. ولم يكن المؤتمر استثناء.

في السنوات الأخيرة كان المؤتمر الشعبي قد بدأ يتشكل كواجهة حزبية درّبته الدورات الانتخابية. وعبر ظاهرة "الكلية المجزّأة" بتعبير سارتر استطاع نظام صالح أن يسحب من الطبقة المتوسطة شخصيات رفيعة طعّم بها الحزب ومحدثاً بعض الإنارة في دهاليزه.

لكن الطبيعة المرضيّة لصالح، تصفه الباحثة الأميركية فايسباخ بالرجل ذي الذهن المشطور، نحت بالحزب في طريق آخر.

وفي المشهد الأخير صحونا على مشهد أخلاقي مروّع. فقد حوّل صالح حزبه الكبير، أو حزب الشخصيات الوطنية كما كان يسميه، إلى مخزن للواقيات "كوندومس" لمصحلة الحوثي وميليشياته.
وكان صالح شخصياً هو الكوندوم العظيم لذلك الرجل الشاب القادم من صعدة.
على أن هذا ليس ما أريد أن أكتب عنه الليلة.

الحقيقة أن كل الأشياء التي أردت أن أكتب عنها نسيتها كلها.