الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٦:٤٤ مساءً

ذكريات نزوح (2)

فكرية شحرة
الخميس ، ١٤ مايو ٢٠١٥ الساعة ١٠:٤٥ صباحاً
مقولة " أنني أفضل الموت تحت سقف بيتي " ليست استعراض بطولي فارغ أو مجازفة بالأرواح حتى لو كان البيت إيجار والإيجار أربعين ألفا يخطف نصف دخلك .

النزوح موت بطيء يصبح معه الموت السريع خيارنا الأفضل ..

هل كل من ترك بيته سيتركه للأمان والراحة ..أم للمجهول والتشرد والضياع وربما الموت على قارعة طريق .
لقد سقطت منازل كثيرة فوق رؤوس قاطنيها في تعز وعدن وصنعاء وصعدة .. ربما لأنهم عجزوا عن النزوح خوفا من فكرة النزوح ذاتها .. أو لعجزهم المادي عن ذلك بعد ارتفاع أسعار الوقود والمواصلات ارتفاعا مهولا ومن ثم ندرتها بشكل يعجزك عن التحرك ..

حين قررنا ترك منزلنا كان أول سؤال أقلقني هو إلى أين ؟

فلم يك لكل مواطن يمني بيت في الريف كي يرممه كما قال مسعر حرب, ليفر إليه في وضع لم يخطر على البال . ولأنه يجب المغادرة فسؤال إلى أين يعد ترفا غبيا .

كان السؤال الملح هو ماذا أحمل معي من أشياء قد تحتاجها أسرة ستحتاج لكل شيء ؟

كان خوف المداهمات وسرقة البيوت ونبش خصوصياتها أكثر ما يثير الرعب وبدا لي كل شيء خاص جدا وصعب التفريط به, فكيف تحمل حياتك كلها خلف ظهرك في مجهول نزوح إجباري .

وأخيرا تركنا كل شيء خلفنا لننجو بأطفالنا فقط .
في بعض العائلات التي نزحت كانت الأسر تتراكم في منزل ريفي لا يتسع لجدرانه ذاتها , لكن القلوب التي ذاقت الخوف انفتحت على مصراعيها لكل قادم يزاحم الأمتار القليلة.

شحة الماء في الريف وصعوبة العيش وعشرات الأفواه الجائعة والظلام الحالك الدائم جعلت الجميع يتمنى النزوح للآخرة .. لقد أنتقل اليمني مئات السنين إلى الوراء دفعة واحدة .

أصبح القمح عملة صعبة ومن اكتنزه في بداية الأزمة صار يقايض به حفنة من طحين في غياب وقود طواحين الحبوب ..وبدأت فكرة استخدام الرحي تعود فالشعب كله تطحنه رحى الأزمة.

و للأزمات حلاوتها ..
كنا نساء أربع عائلات يصل عددنا إلى تسعة نساء يجمعنا مساء ضوء شمعة تتمايل لاندفاع الأنفاس الضاحكة ونحن نحلل الوضع كل مساء ونصف هول الضربات الصاروخية التي لم نعهدها في حياتنا قط . ونشرب الشاي كثير السكر الذي لم أحب حلاوته الشديدة .

ربما وأنت في خيمة في صحراء مقفرة وحولك قلوب بيضاء محبة وأنت مطمئن على أحبائك ربما ستعرف الهناءة كما لو كنت في قصر مشيد وحوله الحدائق الغناء .
أجمل ما في الإنسان اليمني هو التكيف على أي وضع فرض عليه ..

كان الخوف مما سيأتي هو المسيطر على تفكيرنا, إلى أين تسير البلاد ومتى تنتهي الحرب ؟ هل سيتحمل هذا الإنسان تسارع الإحداث المفاجئ وبطئ الحلول الصادقة .

النزوح أن تترك خلفك أنت .. بكل تفاصيل حياتك واهتماماتك واستقلاليتك .. أن تلغي ذاتك من أجل سلامة الآخرين .. لن تشبع إلا إذا شبعوا ولن تنام إلا بعد نومهم .. لن تعيش إذا لم يعيشوا .

قلبك موزع في كل أتجاه, تعددت أسباب القلق .. وجبهات الخوف والسبب واحد ..فقدان الأمان .

قصص النزوح تختلف من شخص لآخر .. يجمعها الاغتراب داخل وطنك .. وحاجتك الشديدة لإطعام الأفواه الجائعة وتوفير احتياجاتك الأساسية, وفي النهاية تفقد مذاق الحياة في غربة ذات وغربة مكان ..

انتهى الماء في منزل الذين استضافونا, وأصبح البقاء شاقا على الجميع .

خمسة أيام ومدينة إب تنتظر قصفا آخر فكل سكانها تقريبا نزحوا للقرى خوفا من استمرار الضربات الصاروخية, في اليوم السادس عدنا لبيتنا كما عادت عشرات الأسر لمنازلها ..

في طريق العودة قام أحد الأشخاص بقيادة سيارتنا لغياب زوجي, كان يجهل تماما كيفية التعامل معها, فكان يتلقى دروس القيادة من أبني الصغير الذي اجتهد في ابراز حذاقته المبكرة في التعامل معها .

كان الموقف يدعو للضحك .. لكن قلبي كان دامي لرؤية مدينتي بهذه الحال.
في أول منعطف نزولا من شبان تظهر إب ..تلتقيها عيناي بعد أيام من الغياب تعلوها صفرة حزينة, هل كانت صفرة الفجيعة أم صفرة الاحتضار في انتظار جرعة صواريخ أخرى .
مدينة إب ..
لسلميتها المفرطة فتحت أبوابها لجماعة الحوثي فكان كالسرطان انتشاراً, تمكن من تحويل إب إلى ممر للموت لمحافظات عدن والضالع وتعز ..
كل هذا وإب تتلقى مئات الأسر النازحة من مختلف المحافظات لكونها المدينة الأقرب والأكثر أمانا والأنسب من كل الوجوه .
لهذا زاد حرص أبناءها على سلميتهم المذلة كي لا ينفجر الوضع ويزداد سوءا .

ربما لا يعرف المتحمسون لتطهير مدننا من وباء الحوثي كم يعاني أبناء مدينة إب بسبب سلميتهم ومقاومتهم الخجولة ..

مازالت أطلال منزل محسن الحماطي و غيره ماثلة في عقول أهالي إب والتي نسفت بتهمة المقاومة و نصب الكمائن للإمدادات العسكرية الحوثوعفاشية, ماثلة مع كل تهديد بنسف منازل إصلاحيين رفضوا تسليم أنفسهم للاعتقال .

لقد كان لهذه المدينة الوادعة نصيب الأسد من الانتهاكات والمداهمات والخطف والتشريد والنهب بأسم المجهود الحربي, أبناؤها يعانون اختفاء السلع والوقود و الكهرباء منذ أكثر من شهر .

و بقيت إب تحتضن النازحين و تلملم جراحاتها من أجل سلامة المواطنين من أي تأزم قد يحدث كلما اصر المخلوع وحليفه على استفزاز أبناء المحافظة وحرمانهم من كل مقومات الحياة و أيضا اشتباكات يومية بين قبائل ولصوص المعسكرات المنهوبة ..

واستمرار المليشيات الحوثية في تخزين الأسلحة ومضادات الطيران داخل المباني السكنية وتعريض الأبرياء للقصف.

وحتى كتابة هذا المقال وبعد ليلة مرعبة تم فيها قصف أماكن في المدينة وتجدد الاشتباكات و استمرار تعالي أصوات الرصاص بين وقت وآخر تظل مديني نازحة بحثا عن السلام تحتضن مئات النازحين في قلبها في قصص نزوح مؤلمة ستسطرها الأيام للأجيال القادمة ..