الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ١١:٥٠ صباحاً

نهاية أخرى لأبي الخيزران

ماجد عبد الهادي
الخميس ، ٢٩ اكتوبر ٢٠١٥ الساعة ١٠:٢٠ مساءً
يدقّ الفلسطينيون حائط البراق، في القدس، وجدران الحرم الإبراهيمي في الخليل. يقرعون أجراس كنيسة المهد في بيت لحم، وإذ يندهش العالم من مفاجأة بقائهم على قيد الحياة، بعدما افترض موتهم في خزان لاهب، أحكمت قيادتهم إغلاقه عليهم، تحت شمس الصحراء العربية، يسارع ما يسمى المجتمع الدولي، لا إلى إنقاذهم، وإنما إلى محاولة إسكاتهم، علهم يموتون بصمت، بعد حين.

ولو كان لي شخصياً، إزاء ذلك، أن أستقبل من أمري ما استدبرت، فأتمكّن من زيارة بيروت المحكومة ببنادق المستعربين الفُرس، ليمّمت شطر المثوى الأخير الذي يضم أشلاء الأديب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني، واستأذنته، لتغيير خاتمة روايته الشهيرة "رجال في الشمس" بما يلائم متغيرات العقود الأربعة التي مرت منذ اغتياله، وأهمها، أن الفلسطينيين ما انفكوا يدقون جدران الخزان، على عكس ما كتب، في مستهل ستينيات القرن الماضي، لكن الأعداء، ومعهم الإخوة الأعداء، لم يكفّوا، يوماً، عن محاولاتهم تكميم أفواه هؤلاء، وحرْف أنظارهم نحو سراب السلام، ومنعهم من اكتشاف حقيقة أبي الخيزران، قائد شاحنة الموت التي حُشروا فيها، وقد صار عارياً حتى من ورقة التوت التي تستر عجزه.

أما وأن تصاريف الدهر نأت بي عن قبر الرجل الذي لطالما سعيت، منذ بواكير وعيي، لأتتلمذ على نصوصٍ كتبها لفلسطين، بحبره، وبدمه، فلا خيار لي، سوى أن أكتب، معتذراً سلفاً، قبل أن أتجرأ على اقتراح نهاية أخرى لـ "رجال في الشمس"، تقول أحداثها، باختصار، إنهم صرخوا، ودقّوا جدران الخزان، فصمَّ أبو الخيزران أذنيه عن سماعهم، وكذا فعل حرس الحدود العربية، وكل "القوى الدولية المحبة للسلام"، ثم حين علا ضجيجهم أكثر، واهتزت الشاحنة، ومادت تحت وقع قبضاتهم، جاء من يطلّ عليهم من فتحة أعلى الصهريج، ليحذرهم مما يفعلون.

وبصرف النظر عن التوقعات، أو التخيلات، لمسار الأحداث اللاحقة، فإن الأهم في ما بلغته حبكة الرواية على أرض الواقع، هو أن أبطالها لم يصبحوا جثثاً ملقاة على مزبلة بعيدة عن فلسطين، كما لم يعد عَجْزُ أبي الخيزران سراً مخفياً عليهم، بل إنه صار يعلنه، على الملأ، بعظمة لسانه، دونما خجل، أو وجل.

ولعل حجة هذه التعديل الروائي تقوم على أن الشعب الفلسطيني ينتفض اليوم، للمرة الثالثة، في ظروف سياسية مشابهة للمرتين السابقتين، من حيث التهميش الذي تعرضت له قضيته الوطنية، على سلم اهتمامات المجتمع الدولي؛ فالانتفاضة الأولى اندلعت عام 1987، حين كانت منظمة التحرير قد تآكلت مكانتها، وتعرضت للنبذ عربياً ودولياً، نتيجة نجاح رئيس الوزراء الإسرائيلي، أرئيل شارون، ثم الرئيس السوري حافظ الأسد، بطردها من لبنان وسورية، على التوالي، وجاءت الانتفاضة الثانية، عام 2000، عند بلوغ مشروع التسوية السلمية مع إسرائيل، نهايته الخائبة، بعودة الزعيم الراحل ياسر عرفات، خالي الوفاض من قمة كامب ديفيد، ثم ها هي الانتفاضة الجديدة تتفجر بعدما بلغ تجاهل القضية الفلسطينية، حد إقصائها، إلا في ما ندر، من خطابات قادة العالم، لدى احتفالهم، أخيراً، بالذكرى السبعين لتأسيس هيئة الأمم المتحدة.

غير أن الجديد المختلف، هذه المرة، عن المرات السابقة، يجد تعبيره، في استقلال الانتفاضة الثالثة عن القيادة السياسية الفلسطينية، وانخراط الأخيرة، علناً، في مساعي إعادة الهدوء، جنباً إلى جنب مع قادة المجتمع الدولي الذين هبّوا خفافاً، إلى تل أبيب، ورام الله، بعد طول إهمال، ليبحثوا كيفية دفع الفتية المنتفضين نحو الكف عن قرع جدران التاريخ.

وبالعودة إلى مقاربة "رجال في الشمس"، سيكون على أبي الخيزران، إذا انتصرت الانتفاضة على مساعي إجهاضها، أن ينتظر نهاية أخرى، سوى إلقاء جثث أبطالها على مزبلة في أقاصي الصحراء العربية، وعودته من هناك، كأن شيئاً لم يكن.

"العربي الجديد"