الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠١:٢٨ مساءً

أشرف فياض وأخوانه.. والمؤسسة إياها!

سعدية مفرح
الاثنين ، ٠٨ فبراير ٢٠١٦ الساعة ١١:٤٧ صباحاً
من بين الأشلاء الموزعة بالعدل والقسطاس على ساحات الأسى العربي، وبموازاة مجرى الدماء التي تشق طرقها الواسعة في عواصم العرب ومدنهم المبتلاة يحدث أن يبرز خبر صغير في إطار هامشي ليحتل المشهد كله. وخبر الشاعر الفلسطيني أشرف فياض من هذا النوع الصغير حجما بمساحات النشر والبث والكبير أثراً ولو بعد حين!

نحن نشير إذن إلى قضية الشاعر الذي صدر بحقه حكما بالإعدام خفف لاحقا الى السجن والجلد لاحقا كحالة من حالات التناقض في مشهد الثقافة العربية الراهنة. صحيح أنها حالة فردية، بشكل أو بآخر، لكنها، من وجهة نظري، إحدى أهم القضايا التي يمكن الحكم من خلالها على وضع الثقافة والفكر والدين والحرية في المشهد العربي الذي نعيشه الآن ونشارك في تكوينه وتحديثه ولو بالفرجة وحدها!

أشرف فياض، شاعر وفنان تشكيلي فلسطيني في الخامسة والثلاثين من عمره، وهو مولود في المملكة العربية السعودية لأبوين من اللاجئين الفلسطينيين، وجد نفسه فجأة مهددا بأقسى عقوبة يمكن أن تلحق بالمرء وفقا لحكم قضائي معاصر، وبتهمة مائعة على خلفية إصداره لديوان شعري متداول بين أيدي القراء منذ ثمانية أعوام بعنوان “التعليمات بالداخل”، لكن تعليمات أشرف فياض الشعرية لم تعد بالداخل كما يبدو بعد أن تورط، كما نشر، في خلاف شخصي مع شخص سرعان مع اشتكى عليه لدى السلطات السعودية المختصة متهما إياه بالترويج للإلحاد وأفكار التجديف بالإضافة الى تهمة غربية في توصيفها وهي “التحرش بالذات الإلهية”، وهكذا أعيدت قراءة نصوص أشرف فياض الشعرية المنشورة منذ العام 2008 ليس في سياقها الإبداعي الشعري كما ينبغي لقراءة الشعر أن تكون، ولكن للبحث فيها عن العفريت، وفقا لنظرية شعبية أثبتت جدارتها وصحتها تقول أن الذي يبحث عن العفريت لا بد أن يظهر له.

بحثت المحكمة الموقرة عن العفريت الخفي فظهر لها مختبيئا بين ثنايا القصائد والنصوص بهيئة أفكار وتهويمات سابحة في فضاء الإبداع من السهل تفسيرها كما يشاء متلقيها وكما تتيح له ثقافته العامة والخاصة ومستواه التعليمي وأسلوبه في القراءة وطريقة تربيته وغيرها من عوامل تشكل لنا سبلنا عادة في قراءة النص الشعري وتلقي رسالته الجمالية والفكرية. ورغم ما يعتور تلك القراءة “المغرضة” أو المتقصدة بأثر رجعي ، على أحسن فرض، للكتاب من ثغرات تجرح روح الشعر وتهين إحساس منتجه وتقضي على أي احتمالات مفتوحة لتلقي الدهشة المتوقعة فيه، فإن من حكم على اشرف فياض لم يتبناها وحسب، بل زاد عليها بأن قرأ النصوص على طريقته الخاصة أي أنه قرأها “شرعيا”، وهذا ليس مخالفا لروح الشريعة الإسلامية وحسب بل أنه غريب عنها وشاذ عن فكرتها العامة وتصورها الخاص للحياة وللإنسان ، وحتى عن النفس القرآني الذي هو أساسها في نظرته إلى القصيدة كمنتج إنساني حتمي، ذلك أن القرآن الكريم نفسه يقول عن الشعراء، غير المؤمنين، في أسوأ نظرة لهم أنهم يقولون ما لا يفعلون، أما الذين آمنوا فلا جناح عليهم لا في الفهم ولا في الحكم!

في قراءة سريعة لمعظم ردود الفعل التي نشرت هنا وهناك، من قبل الكثيرين، على الحدث برمته، سواء أكانت مؤيدة للحكم على الشاعر أم مناهضة له، وبدرجاتها المختلفة، تثبت أن قلة فقط اطلعوا على نصوص الكتاب الذي هو مادة “الجريمة” المفترضة، وبالتالي فإن معظم الآراء التي أصدرها هؤلاء قامت على العموميات، آي أنها نهضت كرد فعل على الحكم أساسا رفضا أو تأييدا، ولم تقم على أساس أصيل في نقد الشعر.

ومن النصوص القليلة التي وردت في إطار ما تداولته الاخبار عن تلك القضية يتأكد للجميع بشكل موضوعي أن الشاعر المتهم لم يغادر في ما قاله متردم الشعراء العرب منذ بدء الرسالة الاسلامية حتى الأن. أما لماذا أصبح ما قاله في قصيدته تهمة يستحق مرتكبها الإعدام فلأننا كمسلمين تنازلنا كثيرا عن صورتنا الانسانية الحقيقية الحرة كما خلقها الله وكما ينبغي أن تكون الأديان قد أتت لبلورتها لصالح مؤسسات تكونت من خليط التدين مع السياسة بنسب متفاوتة تاريخيا حسب مقدرات كل عصر، تفكر عنا في كل شيء وتقدم لنا النتيجة النهائية بلونين وحسب؛ إما أبيض أو أسود، أي إما حلال أو حرام، فلا يعود أمامنا سوى الانحياز لأحد الخيارين المحددين سلفا مع الاعتقاد أننا نمارس حريتنا في التفكير ثم الاختيار!

لم تكن قضية أشرف فياض الأولى ولن تكون الأخيرة، ومخطئ من يظن أن الأمر يتعلق بخصوصية القضاء السعودي مثلا، ففي كل بلد عربي أو إسلامي تقريبا حدثت مثل هذه القضية بشكل أو بآخر، وستظل تحدث ما دمنا نعيش في ظلال هذا النوع من المؤسسات التي تفكر بالنيابة عنا كبشر في الدين والحياة وإن بصور مختلفة. ولو أردنا أن نستذكر قضايا وحوادث أخرى برزت طوال قرن في تاريخنا المعاصر على هذا الصعيد لما عجزنا، فأشرف فياض مجرد حلقة في سلسلة طويلة من إخوانه العرب والمسلمين الذين ذهبوا ضحية تلك المؤسسة ذهابا مختلفا على صعيد قضائي أو اجتماعي أو حتى أمني إجرامي، منهم مثلا؛ طه حسين ومحمد إقبال ومنصور فهمي وفهد العسكر وعرار وعبدالله القصيمي ونجيب محفوظ وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد وحيدر حيدر وآخرون كثيرون.. كثيرون جداً مضوا وبقيت لنا رحمة الله التي وسعت كل شيء، لعل وعسى!

"إيوان 24"