الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٢:٣٢ مساءً

مطهر الإرياني.. القيل اليماني الذي ترجل

عامر السعيدي
الاربعاء ، ١٠ فبراير ٢٠١٦ الساعة ١١:٣٩ صباحاً
لا أدري إن كان علينا ونحن نتأمل الواقع أن نفكر كثيراً أو حتى قليلا قبل أن نتكلم و ننظر لما وراء الأشياء جيداً وأن نستدعي التاريخ كضرورة بإعتبار الحاضر بعض الماضي ولأن الحكايات مكررة غالباً .
لا أدري فعلا لكن رداءة اليوم وصمت الشعراء يجعلنا نتذكر شعراء الأمس الذين كفروا بالصمت ووقفوا في وجه الزمن الردئ بتحدِ
البردوني ، الزبيري ، النعمان ، الموشكي ، العواضي ، القردعي والإرياني .
أكاد أسمع أصواتهم الخضراء كأنهم ناموا للتو أو بالأصح لأنهم لم يسكتوا بل رفعوا أصواتهم غالباً وعاليا جدا حتى الأبد وزيادة .
ولأن الليلة أخت البارحة أعتقد أن العودة إلى أرشيف الماضي القريب قد تساعدنا على قراءة وفهم الأحداث الدراماتيكية التي تمر بها البلاد حالياً وحتى لا نذهب بعيداً سأتوقف بكم على بعد زمن أقل من عمر أبي تقريباً .
مطهر الأرياني .. شاعر الروح الوطنية والترنيمة السبئية الخالدة .. المعجم اليمني والمؤرخ الشاهق المسكون بالنقوش المسندية والتراث الشعبي الشاعر السبتمري العظيم المصحف الوطني الذي أن يكاد يكون ذاكرة البلاد وصوتها العالي ومرآة هويتها الحضارية وعبقها الوجودي
القائل وقوله الحق :
يا وطني جعلت هواك دينا
وعشت على شعائره أمينا
تبقى الأوطان وتموت الشعوب . تموت حين تغمض صوتها عن أوجاعها وتنسى رموزها وجذورها وتسكت على قاهرها ومغتصب تاريخها .
ولأن الشعب اليمني العظيم والعريق يرفض أن يموت لأنه يستوعب تاريخه جيداً ، لأنه يستدعي أبطاله التاريخيين دائماً ، لأنه يستشعر الخطر عند كل منعطف .
لأن هذا الشعب أصيل ومكافح وقوي وعظيم فهو يستحضر أولاده العظماء عند كل وجع ومع كل جرح وفي كل مناسبه .
إن أسعد الكامل لم يزل حياً في ذاكرة اليمن ومعه السيدة بلقيس والملكة أروى وأمرؤ القيس الكندي وسعد بن عباده والهمداني وعلي بن الفضل والحميد بن منصور والحكيم علي بن زايد ومعهم جميعاً المجد والتاريخ والحضارة ومن حولهم اليمنيون تبابعه وسبئيون وحمريون ومعينيون وكنديون واوسانيون .. الخ
ولعل الشاعر اليمني المملوء باليمن مطهر الارياني أدرك معنى أن يبقى الإنسان قريباً من الجذور فأوغل في اليمن العميق كما لم يفعل أحد من معاصريه ولكي تظل الهوية اليمنية الأصيلة حاضرة في قلوب أولادها ما جعل الإرياني يقرأ المسند ببراعه ويأخذه إلينا كبسمة يمنية متجذرة في الأعماق واستوعب المفردات اليمنية الخالصة في معجمه الموسوعي والمتفرد " المعجم اليمني " .
وكما عاش الارياني مع اليمن القديم تاريخاً وأدباً ومجداً وحضارة فإنه في المقابل يعيش في الوجدان اليمني كواحد من أهم العظماء الذي يعاصرون كل الأزمنة كما لو أنهم أبديون .
عند كل صباح يستيقظ الفلاحون مع الإرياني على ألحان السنيدار وهو يغني ..
ما أجمل الصبح في ريف اليمن حين يطلع
ما أبهى وما أصفى هواه
لما يصفق لإبداع الطبيعة ويرفع لها روائع سناه
وعندما يتحدث عن الفلاحين فإننا نحن أيضاً نتحدث عن الإرياني الفلاح الذي عاش مع الأرض وترابها حرثها وحرسها وغنى لأشجارها وسقاها بروحه وأمتزج بها حتى فاحت رائحتها الطيبة من ووجدانه
بلادنا ياسهول
اتوسعي للمعاول
بلادنا ياحقول
اتموجي بالسنابل
يادايم الخير دايم
على الجبال والتهايم
شنت عليها الغمائم
بالجود رايح وغادي
وعن " الباله الغنائيه " التي أصبحت جزءاً من الموروث الشعبي المتجذر في وعي الأرض والانسان بعد أن أبدعها الارياني كتجسيد لواقع الانسان اليمني البسيط وعذابات الغربة وصراع البلاء وقهر الداخل وغياب الحياة الكريمة وحرمان الدفء الوطني .
الليلة البال ما للنسمة السارية
هبت من الشرق فيها نفحة الكاذية
فيها شذى البن فيها الهمسة الحانية
عن ذكريات الصبا في أرضنا الغالية
***
والليلة العيد وأنا من بلادي بعيد
ما في فؤادي لطوفان الأسى من مزيد
قلبي بوادي «بنا» و«أبين» ووادي "زبيد"
هايم وروحي اسير الغربة القاسية .
ومثلما جسد الارياني معاناة الانسان اليمني وبكى وأنتحب كثيراً فإنه في المقابل ترجم أفراح اليمنيين فغنى وأطرب أكثر حتى لكأني بكل يمني رجالاً ونساء .. صغاراً وكبارا يتمايلون طرباً وفرحاً مع أغنية " أنستنا ياعيد " من ألحان وغناء علي السمه وكلمات مطهر الارياني .
كما لايمكن أن ننسى رائعة الارياني " فوق الجبل " التي تغنى فيها بالجيش اليمني ولا أظن الشاعر الآن إلا خجولاً ككل يمني من الجيش الغائب عن الميدان بينما البلد تغرق في فوضى هي الأسوأ في تاريخ اليمن ومع ذلك لم نزل نراهن على الجيش اليمني و نغني مع الارياني .
فوق الجبل حيث وكر النسر فوق الجبل
واقف بطل محتزم للنصر واقف بطل
يزرع قبل فــي صميم الصخر يزرع قبل
يحرس أمل شعب فوق القمة العاليه
في الواقع أنا هنا لست بصدد قراءة الارياني عموماً وهو العلامة الذي وسع كل شيء علماً ولكن ما يجري من أحداث على الأرض اليمنية تدعونا للعودة إلى النصف الأخير من القرن الماضي حيث كانت ذات الأحداث تقريباً وحيث كان الإرياني واحداً من أبطال ذلك الزمن و لا أبطال مشابهون الآن رغم أن الحاضر يكاد يكون صورة قديمة ومكرره .
لقد انتفض الشعب اليمني مع أبطال ثورة 26 سبتمبر في وجه الحكم السلالي الكهنوتي الذي ظل رازحا على صدر اليمن لألف عام أو تزيد واليوم عادت أصوات السلالة التي تزعم أن دمها أبيض ودماء اليمنيين بلا لون . جاءت بعد خمسين عاماً على ميلاد يمن الجمهورية الذي يتساوى فيه المهمش مع السيد وبائعة الملوج مع شيخ القبيلة .
ولأن الشعراء اليوم نائمون كان الإرياني يقضاً كما هو الحال مع الزبيري والبردوني وغيرهم من جيل النور والتحرر والإنعتاق ولعل ملحمة مطهر الارياني الوطنية التي رد بها على دامغة الشامي السلالية تلخص المشهد بشكل جلي كما هو الآن.
وبالمناسبة فإن مطهر الإرياني كما هو في عيون الزمن ولد صالح وبار باليمن ، هو أيضاً من أبناء إب الخضراء التي تعرضت كغيرها من المدن لعنت وصلف المليشيات الظلامية التي تتعالى على اليمنيين وتمارس التنكيل بهم منذ قرون ولعل الارياني كان يرى ما يجري الآن ويخاطبنا كما خاطب اليمنيين في أحداث أغسطس الأسود يوم قال :
يا قافلة بين امسهول وامجبال
اللهَ مَعِشْ حامي وحارس
يا قافلة عاد المراحل طوال
وعاد وجه الليــــل عابس
ياقافلة رُصِّي صفوف الرجال
واستنفري كل الفوارس
قولي لهم : عاد الخطر ما يزال
لا تأمنوا شر الدسايس
لقد كتبت هذه المادة قبل عام عندما سقطت الدولة وبدأنا نتلمس وجوه اجدادنا الأبطال وقادتنا العظماء فكان مطهر الإرياني الأقرب الى القلب والشعب وكنت أنوي أنا وصديقي كاتب ذاكرة فبراير المهندس و الشاعر سعيد العسالي زيارة هذا القيل اليمني وترتيب مهرجان لتكريمه ولكن حرب الظلاميين حالت دون ذلك وها هو يرحل حزينا وهو يرى النور الذي غرسه مع رفاق سبتمبر يذوي لكننا نعاهد هذا الجبل أننا ماضون على الطريق الجمهوري حتى تقف أحلام الشهداء على الاقدام ويندحر هذا الظلام للأبد .
صلاة..
عليك السلامْ
وأنت تصلي
على باب ربك والأنبياء نيامْ
وأنت تغني وأنت تموت ..
وأنت تعود من الموت في موكبٍ من غمامْ
عليك السلام ومنك السلامْ
وأنت تؤرشف أحزان قلبك في كتبٍ من غرامْ
لقد علّمَتْنا دموعك أحلى الكلامْ
وها أنت بالحزن ترسم آلهةً من هديل الحمامْ
وبالحب تبني لنا كعبةً ومقامْ
عليك السلامْ
ونحن نلوذ بجرحك من وجع الحرب حين نُسامْ
لتحرسنا من سيوف الظلامْ
وتبني لنا وطناً من أغاني النساء على ساحلٍ من رخامْ
عليك السلامْ
تباركتَ يا وطن العاشقين ويا جرحنا الحالم المستهام .