الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٧:٥٩ مساءً

الحرب والنسيان - عن الشهية الإيرانية، والمأزق السعودي.

مروان الغفوري
الثلاثاء ، ٢٠ ديسمبر ٢٠١٦ الساعة ١٠:٥٦ صباحاً
بالنسبة لحسابات إيران الاستراتيجية بدا اليمن مهماً، بل شديد الأهمية. مطلع يناير ٢٠١٥، بعد احتلال الميليشيات الحوثية للعاصمة صنعاء بثلاثة أشهر، زار السفير الإيراني مدينة عدن. هناك التقى السلطات المحلية وتحدث عن مستقبل أفضل لليمن، وقدم وعوداً كبيرة: بناء محطة نووية لإنتاج الطاقة، وتكرير النفط الإيراني في مصفاة عدن. في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام ٢٠١٤ تجول الإيرانيون داخل الأراضي اليمنية بلا منافس مبشرين بمستقبل أكثر إشراقاً، أي بعد سقوط الدولة في قبضة الميليشيا. تلك هي الطريقة التي تدخل بها إيران البلدان التي ترغب فيها. تنمو الحاجة الإيرانية، والاسترتيجية الإيرانية إجمالاً، في الفراغات التي تتركها الدولة المتلاشية. لا توجد شواهد كثيرة على أن إيران قد نجحت في إقامة علاقات مستقرة مع دول كثيرة في العالم كما تفعل مع المجموعات تحت الدولتية. يردد المسؤولون الإيرانيون حديثهم عن النصر الكبير الذي أحرزوه في سوريا ولبنان واليمن. ترى إيران انتصاراتها في المناطق المنكوبة.
الرغبة الإيرانية في اليمن أيقظت الرغبة السعودية. ثالوث الرغبة الذي اقترحه "رينيه جيرار" يمكن تشغيله في الحالة اليمنية. فالمرغوب لا يبدو مرغوباً كما يجب حتى يظهر المنافس. فما يضيف إلى المرغوب إغراءاً وجاذبية ليست عناصره الخاصة به بل رغبة الخصم الملحة، وسعيه الحثيث. بقيت إيران خارج المشهد اليمني لأسباب يمكن تخمينها، إلا أن وجدت خيول طروادة متمثلة في الجماعات الطائفية المسلحة. اقترب الإيرانيون من اليمن ورأوا، ربما، ما كان المقاتل اليمني سيف بن ذي يزن قد رواه لملك فارس قبل ١٦ قرناً: بلدي هي الذهب في حقيقته. الشهية الإيرانية في اليمن فتحت الشهية السعودية التي بقيت نائمة على مدى عقود طويلة. كما قادت المدافع الإيرانية القاذفات السعودية إلى الأرض نفسها. مع الأيام قال الإيرانيون إنهم يساعدون الشعب اليمني لمواجهة العدوان السعودي، وقال السعوديون إنهم يواجهون الشعب اليمني لمواجهة الإيرانيين.
في ستينات القرن الماضي قاتلت السعودية لصالح الملكيين ضد الجمهوريين. بعد ستين عاماً، ٢٠١٥، قاتلت السعودية مع الجمهوريين ضد الملكيين. جاءت بصالح أواخر السبعينات على متن طائرة عسكرية ونصبته رئيساً، ثم قامت بعد ثلاثة عقود بتدمير قصوره وجيشه ومصادرة أمواله. حاصرت النظام الماركسي في الجنوب، اقتصادياً وسياسياً، ثم سرعان ما اقتربت منه بعد الوحدة دافعة إياه إلى إعلان الانفصال. لم تعرف السعودية، قط، ما الذي تريده من اليمن، لكنها على الدوام كانت تبدي حساسية عالية تجاه أي نظام سياسي ذي منزع استقلالي، كما حدث مع النظام في الجنوب ومع الجمهورية المبكرة.
في واحدة من وثائق ويكيليكس يتحدث السفير الأميركي في الرياض إلى وزيرة الخارجية "هيلاري كلينتون"، آنذاك، قبل لقائها بالملك عبد الله ناصحاً لها: ستسمعين من الملك عبد الله تأكيدات حازمة حول وحدة اليمن، فالسعودية تعنى كثيراً باستقرار خاصرتها الجنوبية.
أن تنظر السعودية إلى الخلف فترى دولة واحدة أسهل كثيراً، بالنسبة لتدبيراتها، من النظر إلى دولتين. نادراً ما انقسمت البلدان وعاشت الأجزاء بسلام. وإن فكرة دولتين يمنيتين هي مرادف موضوعي لمعنى حرب باردة، على الأقل، بين الكيانين لأزمنة طويلة. السعودية غير مستعدة لمكابدة مشكلة مستدامة كهذه، لذلك حسمت أمرها فيما يخص وحدة اليمن. لكنها، أيضاً، لم تفعل حيال ذلك شيئاً. فقد سمحت لإيران باختراق المجموعات الثورية الجنوبية والعبث بها حد دفعها إلى تشكيل تحالفات سياسية وأمنية مع الحوثيين. الأمر الذي دفع أحد القادة الميدانيين للسخرية أمام صحيفة الإنبندنت قائلاً: أردنا الهروب من نظام صنعاء فدفعتنا إيران إلى صعدة. لا توجد أدلة على أن السعودية تحدثت إلى حليفها السابق صالح حيال قضية الوحدة، أو أنها أسدت إليه نصحاً ما. لم تعن بالتفاعلات التي كانت تجري في اليمن منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة. العمل الوحيد الذي أقدمت عليه هو دفعها أحد أنجال الأحمر لتشكيل تحالف قبلي من ٢٥٠٠ شيخ تحت مسمى "التحالف الوطني". كالعادة: كان ذلك التحالف مشروعاً سعودياً بلا فلسفة ولا جدوى. بقي اليمن في طور التلاشي التلقائي، والسعودية تنظر مسترخية.
اخترقت السعودية المجال القبلي وحولته إلى سوق مرتزقة مركزي. الشيوخ الذين كانوا يتحركون داخل اليمن على طريقة ملوك القرون الوسطى لم يكونوا، عملياً، سوى مرتزقة في كشوفات اللجنة الخاصة السعودية. كان النظام اليمني حليفاً للسعودية، وكان يدير البلد بطريقة لا تمت إلى السياسات بصلة. كما أن القطاع القبلي، وهو كبير ومعقد وتقع العاصمة في قبضته، كان أيضاً في قبضة السعودية. الاختراق السعودي لليمن حال دون انتقال القبيلة إلى الدولة، ودون مغادرة الدولة للقبيلة.
كانت السعودية تلاحظ، على مدار الساعة، هذه المعادلة القاتلة وترعاها. صانعو السياسات السعوديون كانو على درجة من الخيال قادرة على تصور المآل النهائي لمشروع الدولة اليمنية لكنهم لم يعيروا الأمر تقديراً. اعتقد صانعو السياسات في الرياض أن صالح والقبيلة، وقد صارا في القبضة، قادران على تطويع الوحش، فليس لدى السعوديين الوقت الكافي للتفكير بما إذا كان من حق اليمنيين أن يحصلوا على دولة حديثة. من يأبه لذلك.
بقيت فكرة دولة يمنية دستورية، خاضعة لسلطة القانون، في اللامفكر فيه سعودياً. إذا لم يصبح اليمن دولة حديثة قادرة على رعاية مصالح مواطنيها وأمنهم فإنها ستصير شيئاً آخرَ لا يمكن التنبؤ بمدى خطورته. وقف صانعو السياسات في الرياض أمام هذه الحقيقة العارية، أخيراً، ودفعوا ثمناً باهضاً. في لحظة ما صاروا إلى حرب بلا أفق وبلا فلسفة، وتبدو تكلفة الخروج منها أكثر ثقلاً من الاستمرار في خوضها. حصلت إيران على اليمن بميزانية خيط جزمة، مهدرة نصف قرن من الإنفاق السعودي غير العقلاني. لا تزال إيران حاضرة ومتفرجة، وستضع يدها على اليمن بمجرد انسحاب السعودية من المعركة، وستدفع مرة أخرى: كلفة زهيدة تضاهي قيمة خيط جزمة.
من جديد لا تبدو السعودية على علم بما تريده من اليمن، حتى وهي تخوض حرباً هناك. فحلفاؤها الإمارتيون يخلقون في جنوب اليمن وضعاً تشطيرياً على نحو متزايد. بينما يبدو أن الرئيس هادي، كما تشي سياساته، يعمل بمعزل عن دائرة التحالف ولو على المستوى الاستشاري. المجاعة الشاملة، وهي تتناسب طردياً مع طول أمد الحرب، ستصبح كلياً مشكلة سعودية. كما احتفظت السعودية بالرئيس والحكومة داخل أراضيها متجاهلة القيمة المعنوية العالية لمشهد عودة الرئيس وحكومته إلى المناطق المحررة ومباشرة العمل من الداخل.
ومن المثير القول أن المقاومة في الداخل ليست على اتصال حقيقي بقوات التحالف، وأنها تخوض حرباً موازية. كما أن الحرب في تعز ـ أكبر المحافظات اليمنية وأهمها ـ تبدو معزولة عن المعركة الكلية، بحسب اعترافات رئيس الأركان اليمنية.
أهملت السعودية الحرب في أكثر من جبهة، في تعز على جهة الخصوص. بما لدى السعودية من قدرة عسكرية، وبالنظر إلى المنطقة الجغرافية الواسعة التي طُرد منها الحوثيون، وهي تعادل أربعة أضعاف ما في حوزتهم، وبما لدى الجيش والمقاومة من قوة بشرية ضاربة يمكن حسم المعركة عسكرياً في وقت قياسي. المشاهدة البسيطة تقول إن السعودية لم تطور، بعد، خيالاً قادراً على استيعاب النصر الذي أحرز أغلبه عن طريق الصدفة.