الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ١٢:٢٤ صباحاً

الاستنفار واجب والمراجعات أوجب

فهمي هويدي
الثلاثاء ، ١١ ابريل ٢٠١٧ الساعة ١٢:٣٤ مساءً
لا أحد يجادل في ضرورة التصدي للإرهاب بكل حزم، لكن ذلك الواجب ينبغي له ألّا يحول دون المراجعة ونقد الذات.

(1)

أهم ثلاثة مقالات عن جريمة تفجير كنيستي طنطا والإسكندرية «كتبها» في جريدة «المصري اليوم» أمس (الاثنين 10/4) ثلاثة من رسامي الكاريكاتير.

في الأولى ظهر رمز للتاريخ ممددا أمام طبيب نفسي، يعبر عن حيرته ماذا يقول وماذا يكتب. فالحوادث واحدة والسيناريو واحد. وإذ يطلب من الطبيب العون والنصيحة، فإن الأخير لا يجد ما يقوله، لكنه يصوب مسدسا إلى حلقه قاصدا الانتحار. (دعاء العدل).

في الثانية ظهر رجل يعبر عن حيرته فيقول لزوجته وهو يبكي، هل هم الدواعش «الكلاب» أم هو الفساد والمحسوبية أم هو التستر والمداراة التي تدعي أن كل شيء مراقب «وكله قشطة ومِيه مِيه (عمرو سليم).

الثالثة لمسؤول جالس على مكتب عائم فوق بحر من الدماء التي تناثرت حوله. بيده اليمنى منديل يجفف به عرقه، في حين أمسك سماعة الهاتف باليد الأخرى وهو يقول لمسؤول أكبر منه إن «كله تمام» (أنور).

رغم أن الشائع عن الكاريكاتير أنه باب من أبواب السخرية والهزل، إلا أنني قرأت في الصور الثلاث ملاحظات وآراء سياسية تتسم بالجدية، التي جاءت معبرة عن البلبلة والحيرة والنقد الرشيق. ولا أعرف ما إذا كانت تلك مجرد مصادفة، أم إنها من مقدمات النقد الذي سيلجأ إليه بعض الصحفيين في ظل «الطوارئ» وإزاء النقد الذي وجه إلى ممارسات الإعلام المقروء، أيا كان الأمر، فإنني أتفق تماما مع الرأي القائل بأن كل ما في جعبة اللغة من إدانة وهجاء للإرهاب وأهله قيل بالفعل في مرات عديدة سابقة، كما أن كل عبارات العزاء والمواساة للأقباط جرى استهلاكها، حتى أن ترديدها فقد رنينه ومات فيه المعنى.

ليس ذلك فحسب، وإنما ثبت أننا لم نتعلم شيئا من التجارب السابقة، وإننا اكتفينا بالرثاء والأحزان، فذرفنا الدموع بأكثر مما استنفرنا العقول. وشغلنا بالتنديد بالإرهابيين وصب اللعنات عليهم بأكثر مما شغلنا بمراجعة أوضاعنا، وتحرى الثغرات التي تمكنهم من تحقيق مرادهم في إرهابنا. وفي أحيان كثيرة بدا أننا ركزنا على ملاحقة الإرهابيين وإنزال العقاب بهم ولم نقم بما يجب نحو ملاحقة المقصرين ومحاسبتهم على تقاعسهم.

(2)

الرسامون الثلاثة كانوا أكثر توفيقا في الإفصاح عن بعض ما ينبغي أن ننتبه إليه ونفعله؛ إذ وجدت مثلا أن صاحبنا الذي أكد أن كله تمام وهو جالس على مكتب عائم فوق بحر الدماء، هو ذاته الذي علم بأن قنبلة عثر عليها في كنيسة طنطا قبل عشرة أيام من حلول مناسبة العيد ولم يكترث بالأمر. فلا رفع مستوى الطوارئ في محيط الكنيسة، ولا عزز من الحراسة على مداخلها. ولم يفرق بين يوم أحد عادى تقام فيه الصلوات بالكنيسة، ويوم عيد تؤم المكان فيه أعداد غفيرة من الأقباط.

وأثار دهشتي وانتباهي ما تناقلته وكالات الأنباء خلال اليومين الماضيين عن أن البريطانيين كانوا قد أصدروا تعميما حذر من السفر إلى مصر في فترة الأعياد وبسبب احتمال حدوث عمليات إرهابية، وأن الاستخبارات الإسرائيلية هي التي نقلت المعلومة إليهم. وهو ما يعني أن الإسرائيليين عرفوا وحذروا البريطانيين، لكن السلطات المصرية ظلت نائمة في العسل كما يقال. لا أريد أن أذهب إلى أن السلطات المصرية لم تفعل شيئا، لأنها فعلت الكثير، لكن ما فعلته ظل دون ما ينبغي أن يفعل في الظروف الطارئة الراهنة. ذلك أن السؤال الأول الذي لم يختلف عليه أحد بعد كل فاجعة عرفتها مصر من قبيل ما جرى هو: أين الأمن؟، ليس فقط بقواته واحتياطاته، ولكن أيضا بتحرياته ومعلوماته، وضاعف من البلبلة والحيرة أننا لم نعرف حزما في محاسبة المقصرين يتناسب مع الشدة التي عومل بها الفاعلون أو المشتبه بهم.

لقد دأبت التصريحات الرسمية التي باتت تصدر في أعقاب كل كارثة على تذكيرنا بالتضحيات التي بذلت، والجرائم المماثلة التي اكتشفت قبل وقوعها، وذلك أمر مقدر لا ريب. وهو يستحق التنويه فعلا، إلا أنه ينبغي أن يستقبل باعتباره أداء للوظيفة وقياما بالواجب. إلا أن ذلك لا يمنعنا من التساؤل عن السبب في أن ذلك «الواجب» لم يقم به المسؤولون عنه في حالات أخرى.

صورة الرجل الحائر الذي لم يعرف على وجه الدقة ما إذا كان إرهاب داعش وحده المسؤول عن أزمة البلد، أم أنه أيضا الفساد ومشتقاته تطرح سؤالا حقيقيا وجادا. لأن تحميل الإرهاب بالمسؤولية عن كل ما يحدث في مصر لا يخلو من مبالغة؛ لأن الإرهاب إذا كان بمثابة الشر الأكبر، فإن هناك شرورا أخرى تنخر في عظام البلد وتنال من عافيته يتعين الانتباه إليها والتحذير منها. إن شئت فقل إن الإرهاب هو أحد الهموم وليس كل الهموم.

(3)

إذا كانت مثل تلك الرسوم تقرع بعض الأجراس، فثمة أجراس أخرى ينبغي أن يسمع رنينها في الأجواء الراهنة، ليس فقط للتنبيه إلى مواضع الخلل ولكن أيضا للتحذير من المزالق وإزالة الالتباسات، كي يصوب المسار وتوضع الأمور في إطارها الصحيح. من ذلك مثلا أنني لست من مؤيدي الفكرة القائلة إن تفجير الكنائس على بشاعته يعبر فقط عن استهداف الأقباط واضطهادهم. وأقر ابتداء بأن الذين أعلنوا مسؤوليتهم عن التفجير (تنظيم داعش) لهم رأيهم السلبي في مخالفيهم في الاعتقاد من غير المسلمين، أو حتى بالفكر في المسلمين (لاحظ أنهم كفروا حماس في غزة واعتبروهم مرتدين).

مع ذلك فينبغي ألا ننسى أن تلك الكنائس كانت أمامهم ولم تمس طوال السنوات الثلاث السابقة، وإذا كانت بعض الكنائس قد تعرضت للهجوم من جانب بعض المتعصبين أو المجهولين في السنوات السابقة، فلم نسمع أن تنظيم داعش كان طرفا في تلك الاعتداءات. لذلك فإنني أزعم أن استهداف الكنائس في سيناء أو في خارج حدودها تم بعد التضييق الشديد عليهم والردع القوي لهم هناك من قبل القوات المسلحة والشرطة. الأمر الذي اضطرهم إلى البحث عن أهداف خارجها يمكن الوصول إليها لإزعاج السلطة ومواصلة تحديها. وهو تقدير إذا صح، فهو يعني أن ما أقدموا عليه هو جريمة أريد بها مكايدة النظام القائم، وكان الأقباط ضحية له.

في هذا الصدد من المهم ملاحظة أمرين: أولهما أن العمليات الإرهابية قامت بها عناصر داعش وسجلت ذلك في البيانات التي أصدرتها. وهو ما يعد كاشفا عن حقيقة الفاعلين في هذه الحالة، في حين أن هناك حالات أخرى عديدة نسبت إلى «الإرهابيين» دون تحديد لهوياتهم، وهو ما فتح الباب لتعميم التهمة على الجميع.

الأمر الثاني إن نشاط تلك المجموعات ظل مستهدفا مراكز السلطة ومؤسساتها ومفاصلها وليس المجتمع. فلم نسمع عن عمليات إرهابية استهدفت المقاهي أو المجمعات السكنية أو المتاجر و«المولات». وربما عد ذلك من الفروق المهمة بين جرائم الإرهاب الواقع في بلادنا، وبين نظيره في الدول الأوروبية، فالأول يستهدف السلطة والثاني يضرب في المجتمع.

(4)

لدى خمس ملاحظات أخرى لا أعتبرها أجراسا لكني أزعم أنها من قبيل التفاعل مع قرارات مجلس الأمن القومي التي أعلنت مساء يوم التفجير (الأحد 9/4). هذه الملاحظات هي:

< إن إعلان حالة الطوارئ وإن بدا مفهوما ومبررا، إلا أنني تمنيت أن يكون قد صدر بعد دراسة وافية لتجربة الطوارئ في سيناء، لاستخلاص العبرة منها وضمان تحقيق الهدف المراد منها. من ناحية أخرى فإن الطوارئ تعد سلاحا بحدين، فهي قد تشدد من القبضة الأمنية التي لم نعرف أن هناك ما يعطلها في الظروف العادية. إلا أنها يمكن أن تصبح قيدا على الحريات العامة يعمق من الاحتقان في المجتمع فضلا عن انقسامه. والاحتمال في هذه الحالة ليس مستبعدا، لأن الطوارئ حين تعلن في المجتمعات الديمقراطية فإنها تتم في ظل ضوابط صارمة ورقابة قضائية تجعل من الطوارئ عاملا يحقق الأمن للمجتمع وليس خصما من رصيد الحريات فيه.

< إنني لا أعرف مدى ملائمة إنشاء مجلس قومي مطلق اليد في مكافحة الإرهاب، في العام الرابع من عمر النظام الحالي، وبعد ثلاث سنوات من الصراع أثر فيها الإرهاب على الاستثمار والسياحة. وحين يحدث ذلك بعدما بذلت جهود حثيثة لتشجيع تلك المجالات فأخشى أن لا تحقق تلك الجهود مرادها في ظل المجلس الجديد، الذي قد يكون وجوده طاردا للمستثمرين والسائحين.

< إنني أتمنى أن يحيد الخطاب الديني في ساحة المواجهة، لأن اللغط المثار حول تجديده مستمر منذ سنوات ولم يحقق نتيجة تتجاوز تشديد سيطرة الأمن على المساجد، وفتح الأبواب للمهرجين والأدعياء والخصوم للحط من التعاليم وتجريحها، علما بأن الصراع في جوهره سياسي وليس فكريا أو دينيا.

< إن الإجراءات إذا كانت ضرورية فهي قد لا تخلو من فائدة، لكن مراجعة السياسات تظل ضرورية أيضا. وربما صارت أكثر أهمية وإلحاحا. بكلام آخر فإن تقوية قبضة السلطة لا يجادل فيها أحد، لكن إضعاف قوة المجتمع والتضييق عليه لا يخدم الاستقرار، ولكنه يغرى بمزيد من التغول الذي يشكل بيئة مواتية لتمدد الإرهاب؛ لذلك أزعم بأن المواجهة تحقق نجاحها المنشود إذا تضافرت فيها قوة السلطة مع قوة المجتمع.

< أخيرا، فإنه إذا كانت انتخابات الرئاسة القادمة تتم بعد عشرة أشهر من الآن، وفرضت الطوارئ لثلاثة أشهر، فإن المعادلة الصعبة التي يتعين حلها هي كيف يمكن توفير المناخ المواتي لإجراء الانتخابات الرئاسية في الأشهر السبعة التالية، دون أن تتأثر بأجواء الطوارئ وإفرازاتها؟

الشرق القطرية