الخميس ، ٢٥ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٤:٠٤ مساءً

عن أشياء لا تهم أحداً

مروان الغفوري
السبت ، ٢٠ مايو ٢٠١٧ الساعة ١١:٠٧ صباحاً
التحقت بالمدرسة مبكراً. في السادسة الابتدائية كتبت قصيدة عمودية أهجو بها صدام حسين. أمسكتني أمي من ساعدي وركضت إلى غرفة نوم أبي. كانت الشمس لا تزال خلف الجبل، قادمة من عدن أو من جهة المطار. "مروان كتب قصيدة"، قالت الشابة مبتهجة. قبل أن أصل إلى الجزء الأخير من القصيدة كان أبي قد عاد إلى نومه، معترضاً على الطريقة التي كتبتُ بها الشعر. في اليوم التالي شرح لي كيف يكتب المرء قصيدة. اعترضت أمي قائلة، بلهجة قروية "الشعر هو الشعر، لماذا تضع له قوانين"، فرد عليها أبي بأنه ليس من وضعها.
مع الأيام اكتشفت قصيدة النثر. وفي كل مرة كنت أخوض جدلاً حول الشعر، وقد أصبحت بالغاً وقارئاً لا يتعب، كنت أقول "الشعر هو الشعر، لماذا تضعون له قوانين". وقبل أن يموت درويش كتب في الصفحات الأخيرة من "أثر الفراشة": الشعر هو ذلك الذي يجعلك تقول "الله" ثم لا تحتاج إلى دليل بعد ذلك. وراح يقول: لا نصيحة في الشعر، لكنها الموهبة. لا نصيحة في الحب، لكنها التجربة. ثم غرد في "لاعب النرد" على طريقة البجعة، ومات. بعد موت درويش بأسبوع تزوجت الشاعرة الفلسطينية ساره ياسين، فكتبت صحيفة المصدر في صفحتها الأخيرة :مروان وساره في انتظار الشاعر الثالث. وجاءت هيلين بعد سنين طويلة، ويبدو أن أول الأشياء التي لن تقولها هي الشعر.
في ثالثة إعدادي كتبت قصة قصيرة، أسميتها "دوحة الأمل". قلت لفارس الحكيم، أول رفيق كتابة، هيا نذهب إلى بيرباشا، سأنشر القصة. في بيرباشا وقفت أمام محل تصوير وطبعتُ القصة مرتين، مرة لي ومرة لفارس. في طريق عودتنا إلى الوادي قال لي فارس "رائع يا مروان، لقد نشرنا القصة". وكنت أبتسم، بتواضع جم، وأردد: لقد نشرنا القصة.
في أولى ثانوي كتبتُ نصوصاً كثيرة، اقترح فارس أن نطلق عليها صفة خواطر. بعد ذلك أدخلت الوزن الشعري على النصوص، ثم جمعتها في كتاب أسميته ترانيم في الليل، فيما أتذكر. وقذفتني الأيام بعيداً حتى وصلت إلى بانسيون في مكان مهجور في أقصى شرق ألمانيا، بعد سنين طويلة. هناك قالت لي امرأة عجوز، تحرس البنسيون، إن قبر الشاعر نوفاليس يقع على مقربة، خلف الغابة. دخلت الغابة راكباً دراجة تستخدمها العجوز، وعندما عدت كانت في انتظاري. سألتني: ألا تعرف نوفاليس؟ هو من كتب "ترانيم في الليل"، أجابتْ. شئتُ أن أخبرها عن الليلة الأولى التي وصلتُ فيها إلى مصر، وعن حقيبتي التي فُقِدت في المطار. تركتُ فيها كتباً كثيرة كنتُ سرقتها من مكتبة في مدينة تعز، وكراساً مملوء بالنصوص، كان يحمل الاسم نفسه، لشاعر ليس اسمه نوفاليس.
في ٢٠٠٦ التقيت فتحي أبو النصر في صنعاء لأول مرة، وكنت قد عرفته قبل ذلك في "مدينة على هُدب طفل". في يوم من أيام ذلك العام قال فتحي، وكان يتحدث عن معرض صنعاء للكتاب: ليس عيباً أن نسرق الكتب، العيب أن يحصل عليها عبده ربه منصور هادي بالمجان. كان هادي، علمتُ فيما بعد، يعود بالكثير منها من المعرض.
من وقت لآخر كنتُ أدخل إلى مدينة تعز، وأرسل قصائدي بالفاكس إلى صحيفة الجمهورية، وأعود إلى القرية. وفي مرة، على ظهر باص صغير، ذهبت إلى باب موسى، وعندما رأيت صفاً طويلاً من البيوت على الجهة المقابلة لمقبرة الأجينات ابتسمت، وقلتُ لنفسي: كل هذه البيوت تعرف اسمي، كلها تعرف من أنا. لم تنشر الجمهورية شيئاً لي، غير أن دخول أوراقي إلى ماكنة الفاكس كان كافياً، فقد دخلتُ العالم. ما إن تسلمتُ قصتي الخارجة من الجهة الثانية لجهاز الفاكس، لأول مرة، حتى أحسست إني قادر على السيطرة على باقي العالم.
وبعد أن صرتُ كبيراً وطبيباً،2006، عدتُ من القاهرة إلى صنعاء. في المدينة القديمة التقيتُ فتاة كانت قادمة من الإمارات، ومثلي لا تعرف صنعاء، ومثلي ستقضي أياماً قليلة وحسب. طلبت مني أن نتمشى في شارع حدة، بعد ذلك، فترددت. قلتُ لها إن الناس في صنعاء يعرفون ملامحي. سألتني: وما المشكلة في ذلك؟ قلت لها ببلاهة: فعلاً، ما المشكلة في ذلك. قضينا يوماً طويلاً، قالت في آخره: لم يعرفك أحد. قلتُ لها: أظن أن سائق الباص الأخير انتبه لوجودي. فقالت بلؤم: أو لوجودي. اعتقدت لفترة ما، بعد أن نشرت بضعة نصوص، أني قد وضعت حلاً للتاريخ، وصرت هناك، وفي كل مكان. اليوم الذي تأكدت فيه أن التاريخ شأن غير مادي، يتسع لكل شيء ولا يتذكر أحداً .. حدث عندما زرت معرض القاهرة للكتاب، للمرة الأولى. وقعت عيني على مدى من الكتب لا يمكن الإحاطة به. أمام تلك الدهشة المؤلمة، ارتعدت أصابعي، وبكيتُ. في الليل الذي جاء بعد ذلك قرأت أنا كارينينا، وتعاطفت معها وهي تلقي بنفسها في طريق القطار. بدا لي موقفها حلاً، ليس بالمعنى الدرامي وحسب، بل أبعد من ذلك.
في القاهرة اكتشفتُ الكتابة، أو اكتشفت كل شيء. كنت أكتب القصائد وأرسلها إلى صحيفة الثقافية في تعِز. عندما انتهيت من إرسال قصيدة "سيأكلك المعدمون إذا مت وحدك" طلبت مني المرأة التي تعمل على جهاز الفاكس: ٢٧ جنيه. كان الدولار يعادل ثلاثة جنيهات وأربعين فلساً. كنتُ مبتعثاً يحصل في الشهر على ٢٤٠ دولاراً، أدفع منها ٧٠ دولاراً للسكن. بعد السنة الثانية في كلية الطب عدتُ إلى تعز، وهناك قضيت أسبوعين. في الأسبوع الثاني وقعتُ في غرام فتاة تخرجتْ للتو من الثانوية العامة وكانت تنوي السفر إلى كندا. قبل سفري بثلاث ساعات كنت أتجول معها في أحياء مستشفى الثورة، وكنا نتحدث عن كل شيء عدا الحب، لكنها كانت تبكي. بعد عام كامل وصلتني رسالة ورقية منها على بريد كلية طب عين شمس. بدا واضحاً أن الرسالة استغرقت ثلاثة أشهُر لتصلني، وكانت مؤثرة، دفعتني للبكاء وكتابة المزيد من النصوص عن الليل. قرأت رسالتها مرات عديدة، وفي صباح اليوم التالي ذهبت لأداء امتحان آخر العام في مادة مجنونة هي خليط من المناعة والفيروسات والبكتيريا. وبالرغم من أني كنتُ أعرف أين توجد كل معلومة، وقادر على استحضارها بسهولة، إلا أني وقعتُ في خطإ جسيم كلفني درجات كثيرة. فهمتُ سؤالاً عن طريق الخطأ، وذهبت بعيداً في خيالاتي، وكان علي أن أبحث عن السبب. صباح اليوم التالي كنت أصلي الفجر في مسجد "عبير الإسلام"، على الناصية المقابلة لمسجد رابعة العدوية الشهير. في الركعة الثانية تذكرت الرسالة، تذكرت النص المكتوب، وشعرتُ بالاختناق. انسحبتُ من الصلاة، وتركت الآخرين واقفين، وعدتُ إلى غرفتي. أخذت ورقة بيضاء وكتبتُ عليها "أتدرين ما فعلت رسالتك بي؟ لقد نسيتُ سؤالاً بسببها، من الأفضل أن نضع حداً لهذه القصة"، ثم وضعت رسالتها ورسالتي في مظروف واحد، ولم أسمع عنها شيئاً منذ الفجر ذاك.
في مرة، وكنت في ثالثة ثانوي، طلبت العمة مني أن أرافقها من مدينة تعز إلى وادي الضباب. نهرتها بغضب: إذا تأخرت في تعليمي لن ينفعني هذا المشوار، ولا أنت. لم تكن امرأة ضعيفة، كالت لي ولوالدي اللعنات، واستثنت أمي، وعادت وحيدة. وعلى مر الأيام كنتُ أضحي بكل الأشياء، بما في ذلك أقدس العلاقات، لأجل وقت أطول مع الكتب. بعد سنين طويلة أرى خلفي تلالاً من الكتب، ومشاريع محطمة، وتيهاً، ولا أجرؤ على النظر إلى قاع القهوة. أتحسس ذاتي، أجد بداخلها رجلاً يعرف القليل مما يريد، القليل وحسب، ويرى الجهل والمعرفة، العلم والشعوذة يحققان اللذة نفسها. قضى بورخيس حياته في مكتبة، وعندما تجاوز "البيبليومانيا"، أو هوس الكتب المرضي، وقد صار كهلاً واعمى اكتفى بالقليل منها. بدأ هبوطاً تدريجياً، وراح يسأل صديقه كل مساء: هل سنقرأ الليلة كيبلينغ؟. كان قد قرأ كيبلينغ في طفولته.
في أولى إعدادي اكتشف المعلم فيصل العامري قدرتي على كتابة "التعبير" بشكل أفضل من الآخرين. في الشهر الأول طلب منا كتابة نصٍ عن "الغزو الأخلاقي". في الليل عاد أبي إلى البيت ومازحني قائلاً "يعتقد علماء الاجتماع"، ثم ضحك. منذ اليوم الذي كتبت فيه عن "علماء الاجتماع"، صرت مشهوراً ككاتب "تعبير". وعندما قلتُ لصديقي إني أحب فتاة من المدرسة، سألني: هل كتبت لها جواباً؟ أومأت برأسي: نعم. صرخ: يا رباه، كتبتَ لها تعبيراً؟. تركني وهو يعتقد أني كتبتُ لها عن علماء الاجتماع، وتخيلها مأخذوة وولهانة، فما من بشر بمقدوره الوقوف أمام رجل يقول: يعتقد علماء الاجتماع، فتلك جملة تقع في سقف العالم. غير أن الرسالة عادت إلي بعد وقت قصير، فأعطيتها لأحد أصدقائي قال إنه في مسيس الحاجة إليها.
أحببت الكتابة كالقراءة، واخترتُ الطب لأن كتب الطب كثيرة، ونصوصه لا تنتهي، كما أخبرني طالب صيدلة أمام مبنى إدارة البعثات. في ذلك اليوم كنتُ أبحث عن تخصص بحجم مكتبة، وعن سنوات دراسة تبعدني عن اليمن لأطول زمن. في مطار صنعاء ودعني أبي لأول مرة، وقبل أن يتركني فتح كفي الجافة، وكتب عليها: هنا فقر جوع مرض، ثم أغلقها.
بعد عشرين عام أنظر إلى بلدي وكفي، وأدرك ما فعل اللصوص هناك. تعلمت من عظيموف أن ثمة وسائل كثيرة للتعلم، لكن وسيلة وحيدة هي الأكيدة: الدأب. وتعلمت من الأيام أن الأصدقاء رائعون، لكن المرء يكتشف، في أيامه الأخيرة، أنه خسر أجمل الأشياء بسببهم. وهو ما اعترف به درويش قبل وفاته بخمسة أعوام.
ومن المأساة اليمنية تعلمت أن الأمم لا يطالها الهدم الشامل إلا حين تفقد البصيرة على نحو جماعي، أو تتوطأ على ذلك. من الأعلى بمقدورك رؤية أربعة شعوب يمنية، كل شعب يصرخ "نحنُ، نحنُ". مع الأيام سيتفكك كل شعب إلى سلسلة شعوب. ثمة مسرحية عبثية يسدل ستارها في المشد الأخير على مجموعة من الناس تصرخ "نحن، نحنُ". تنقسم إلى مجموعات أصغر، ثم أصغر، تردد الهتاف نفسه. ثم تصير أفراداً منفصلين يصرخ كل واحد منهم، وهو يشير إلى نفسه: "نحنُ، نحنُ، نحنُ".
م.غ.