الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٦:٢١ مساءً

كي لا نفقد البوصلة !

عبد الله شروح
السبت ، ٢٠ مايو ٢٠١٧ الساعة ٠٦:١٧ مساءً
يعد الإصطراع السياسي من أقدم النواتج الملازمة لنشوء الجماعة الإنسانية ، فهو سُنّة جُبِل الإجتماع البشري عليها ، ومنشؤه العقدي " الفكري " عائد للفروق الفردية في استقبال المؤثرات الخارجية وتباين هضمها المعرفي التراكمي من شخص لآخر ومن ثم من جماعة بشرية لأخرى وما ينتج عن ذلك من اختلاف في التصورات تنتج عنه اختلافات في الإتجاهات الحركية مما يجعل التصادم في نقاط معينة أمر محتوم وطبيعي .
تعتبر" الحرب " أشد تجليات " التدافع " ضراوةً ، وأقصاها أثراً ، وأعلاها صخباً ، وهي بمثابة عملية " تخليق " لمجتمع جديد تهندسه بأدواتها التي لا بد وأن تنتج مجتمعاً بالمقاسات الفكرية للمنتصر ، ثم يستمر هذا المجتمع الجديد على استقراره هذا حتى تعيد هندسته حرباً أخرى برحلة صراع جديدة .
والحرب باعتبارها تسارعاً عنيفاً مطَّرداً للصراع الإجتماعي الدائم والبطيء فإنها تضع من يخوضونها بامتحان صعب إزاء ثبات وجهتهم وواحدية مطالبهم التي يسعون من خلال الحرب التي يخوضونها لتثبيتها ، ويكون ثبات طرف ما مرهوناً غالباً برصانة منطلقاته والتي كانت الحرب وفقاً لمقتضياتها خياره الصائب الوحيد .
منذ أكثر من سنتين والشعب اليمني يُطحَن بين حجري رحى معسكري " الشرعية " و " الإنقلاب " ، هذه الحرب التي لم تخضها الشرعية إلا حين سد الإنقلاب أمامها كل أفق للحل السياسي ، فاختارتها على علم بكارثيتها وآلامها كعملية جراحية مؤلمة لا بد وأن تُجرى لإنقاذ حياة هذا الشعب الذي لا يعده ثبوت الإنقلاب إلا بهلاكه .
وكانت منطلقات هذه الحرب واضحة ، باعتبارها حرباً لانتزاع حرية شعبنا من براثن سجّانيه ، حرباً للخروج باليمن - كل اليمن - من عباءة الإنقلاب الإمامي الظلامي لواحة الجمهورية ، ولإعادة اليمن من المأزق الإيراني الذي أراده لها الإنقلاب إلى بعديها الإقليمي والقومي الطبيعيين ، من أجل هذا الهدف العريض اصطفّت القوى الوطنية بجانب الشرعية ، وتحت هذه اللافتة جاء التحالف العربي لدعم الشرعية ، فكانت هذه المحددات " بوصلة " النضال لهذا الشعب المجيد منذ غسق الإنقلاب النكد ، وتتكفل هذه البوصلة وحدها بحفظ الجهد الوطني من منعرجات الرؤى الفئوية والمناطقية ووهم القوميات المجزوءة والمبتورة عن السياق التأريخي لهذا الشعب الواحد .
إن كل الدعوات التي تعالت بالآونة الأخيرة والهادفة لتجزيء هذا الجهد الوطني وشرذمته لحركات انفعالية لم ترقى لإدراك حساسية هذه المرحلة الفاصلة وأهمية ثبات الوجهة في حرب وجودية كهذه ، لا يمكن أن تؤخذ أو تفسَّر إلا وفق مساربها الطبيعية التي تضع القائمين عليها في خانة النقص القيمي المخل الذي يضع المكسب الفئوي الآني محل المصلحة الوطنية الجامعة .
إن الهوية اليمنية الجامعة تعاني من محاولات تشويهها وتمييعها منذ قدوم المشروع الإمامي الغريب عنها إلى الجغرافيا اليمنية قبل ألف عام ، كما سعى الإحتلال البريطاني لاحقاً لتثبيت زيف تمايز " الجنوب العربي " عن " اليمن الكبير الموحد " كحقيقة مستخدماً أدواته الإستعمارية الهائلة ، وقد أحدثت هذه الجهود المحمومة شروخاً في الهوية اليمنية الجامعة زادت السياسات العمياء للنظام العفاشي من اتساعها كما عملت الحوثية الرعناء على تجذيرها ، وكان ينبغي أن يعمل على تقوية النظام المناعي للهوية اليمينة الجامعة بدلاً من الإنهيار والتداعي والإستسلام لدواعي التشرذم والشتات .
إن تماهي بعض القوى المؤثرة ضمن " الشرعية " مع المشاريع الصغيرة والمجزوءة عن جسد الهوية الجامعة يظهر الجسد الوطني مشوهاً وأقل نضوجاً مما ينبغي أن يكون عليه وضريبة هذا الأمر ستدفعها مستقبلاً أول ما تدفعها هذه القوى ذاتها ، كما يظهر التوجهات الداعمة لهذه النتوءات من داخل التحالف العربي لمساندة الشرعية كقوى استعمارية جديدة تنتهج فكرة التقسيم المميزة للفكر الإستعماري منذ فجر القرن العشرين .
فكرة الأقلمة لا ينبغي أن تتعدى في الفكر السياسي اليمني كونها فكرة إدارية تهدف للتوزيع العادل للثروة والسلطة ، وأن لا يُهضم جزء جغرافي طرفي ما من الجغرافيا اليمنية الكلية من هذه الثروات والإمتيازات السلطوية لصالح المركز ، فالأقلمة ما هي في جوهرها إلا فكرة تكتسب أهميتها بقدر ما تحقق من إلتفاف حول فكرة الوطن الواحد الكبير ، كما أن الحزبية أيضاً إجراء يشكل بمجموعه " التعددية الحزبية " التي تمثل ماهية وقوام الفكرة الجمهورية ، وهذا معناه أن الوطن أولاً والجمهورية أولاً ، ومن دون هذين المفهومين بكمالهما لاقيمة للأقلمة ولا للأحزاب باعتبارها إجرائات وتجليات لاحقة ، وهذا يقتضي الإلتفاف حول الشرعية للوجهة النهائية الجامعةِ لاستعادة الوطن - كامل الوطن - والتعامل مع أي فكرة خارجة عن هذا المسار كحقل مغناطيسي دخيل يهدف لانحراف البوصلة وبالتالي المسير لوجهة مغايرة لن تصل بنا أبعد مما يسعى الإنقلاب لإيصالنا إليه .