الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ١٠:٤٤ صباحاً

عمران يُجرح مرتين

سعدية مفرح
الخميس ، ٠١ يونيو ٢٠١٧ الساعة ٠٣:٣٥ مساءً
كدت أكتب يقتل مرتين، لولا أن الطفل السوري عمران لم يمت ولله الحمد، بل نجا بأعجوبة، وخرج من بين أنقاض بيت أسرته الذي تهدّم بالكامل، إثر غارة جوية بالبراميل المتفجرة شنتها المقاتلات الروسية، بالتعاون مع قوات النظام السوري على الحي السكني الذي يقع فيه البيت في حلب قبل شهور. نجا الطفل الصغير بجروح كثيرة احتلت مساحات جسده، لكنه مع هذا لم يبك بعد لحظاتٍ من إنقاذ المسعفين له، بل جلس في سيارة الإسعاف هادئا ساكنا، يحاول أن يزيح الدماء والغبار عن وجهه وعينيه اللتين كان بالكاد يستطيع فتحمها، ليواجه الكاميرا بنظراتٍ مندهشةٍ، أذهلت العالم كله، وحولته إلى أيقونة للبراءة المغتالة على يد الطغيان مجانا.

يومها، احتلت صورة عمران معظم صحف العالم، ولم يستطع إعلام النظام السوري، ولا أي إعلام موال له، تغطية آثار انتشار تلك الصورة التي كانت من أهم صور الأحداث السورية. ولا شك أنها ستكون صورةً تاريخية، تؤرخ لتلك الأحداث، وتنضم إلى رزمة من الصور الفوتوغرافية التاريخية منذ اكتشاف التصوير الفوتوغرافي، والتي أصبحت عناوين لمراحل وأحداث عالمية، اختصرت في مشهدٍ واحد تفاصيل كثيرة خلفها.

نجا عمران من الموت، لكن الموت الذي واجهه، في تلك السن الصغيرة على هذا النحو المدوي، سيظل يسكنه إلى نهاية عمره، وستظل صورته الفريدة تذكّره إن داهمه النسيان يوما. ولأن عمران تحول إلى رمز عالمي تاريخي لبشاعة الأنظمة الديكتاتورية، عندما تستهدف شعوبها، ليكون الأطفال هم الضحية الأولى لها، فقد أصبحت صورته تخص الجميع، ولا تخصه هو أو أسرته وحسب. وبالتالي، أصبح من حق الجميع استثمار تلك الصورة، بما يوحي بمعناها، ويعزّز دلالتها الإنسانية على الأقل، لكن هذا لا يعني أنها أصبحت مشاعا لمن يريد تزوير الحقيقة، أو يستخدمها بعكس معناها، وما توحي به، وتدل عليه بقصدٍ أو من دون قصد.

ظهرت تلك الصورة، أخيرا، في إعلان تلفزيوني تجاري لإحدى الشركات في سياق أغنيةٍ يفترض أنها تهدف إلى محاربة ما يسمى الإرهاب، لكن السيئ في الإعلان أنه اختزل "الإرهاب"، كما يراه القائمون عليه، في جهةٍ واحدةٍ، هي تنظيم داعش المتطرّف. وفي ذلك الاختزال مغالطة كبرى، خصوصا أن فريق العمل لجأ إلى إعادة تصوير بعض العمليات التي أعلن تنظيم داعش مسؤوليته عنها، ودسّ من بينها صورة عمران في استغلالٍ رخيص لمشاعر الناس التي تولدت يومها تجاه تلك الصورة بالذات، ضد المجرم الحقيقي الذي تسبب في تفجير بيت أسرة عمران، والبيوت المجاورة له.

ولا أظن أن ذلك المجرم سيجد ما هو أفضل من إعلان تلك الشركة لتبرئة ساحته من التهمة التي ستظل تلاحقه إلى الأبد، ذلك أن الإعلان الذي شاهده على موقع يوتيوب خلال الأيام الثلاثة الأولى من شهر رمضان، حيث أطلق، مع بدايته، ما يزيد على مليوني مشاهد، نجح في ترويج فكرته لدى الصغار والكبار بطريقةٍ فنيةٍ لا بأس بها، وبتقنيات إخراجية هائلة، وبصوت فنان جماهيري يحظى بشهرة واسعة، وقد تضافرت كل هذه العناصر في تشويه الحقيقة فعلاً. وإذا كان كثيرون يعرفون "الحقيقة" هنا باعتبار أن الحادثة لم تمضِ عليها سوى شهور، فإن الخطورة أن يقل العدد حتى ينعدم تحت وطأة انتشار مثل هذه التشويهات الفنية، فإذا كانت جروح عمران الأولى قد شفيت، فإن الإعلان الجديد جرحه مجدّدا.. وإنْ بشكل أعمق.

لست أتهم الشركة أنها قصدت ذلك المعنى الذي رسّخه الإعلان أخيرا، فليس من مصلحتها ذلك، ولا سوابق لها إلا بإعلاناتٍ تحاول فيها أن تساهم في تعزيز قيم مجتمعية إيجابية، ولكن فريق العمل الفني لا يمكن تبرئته، فالحدث طازج، وصورة عمران ما زالت شاهدة، والمجرم الحقيقي معروف جدا.

"العربي الجديد"