الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٣:٢٤ مساءً

رحلة البحث عن جواز سفر

مطهر الخضمي
الاربعاء ، ٠٢ اكتوبر ٢٠١٩ الساعة ٠٨:٥٧ صباحاً

كثيرا ما راودتني فكرة استخراج وثيقة "جواز سفر" - رغم عدم وجود أي بوادر تدفعني للسفر إلى الخارج أصلا، ووقوف الظروف بمختلف أنواعها - سواء ظروفي الشخصية أو ظروف البلد بشكل عام - عائقا كبيرا أمام تحقيق ذلك. أولها على السبيل الشخصي ذلك السؤال المنكسر: كيف لمن تعيقه تكاليف استخراج جواز سفر أن يتغلب على تكاليف السفر إلى الخارج؟ سواء كان السفر للدراسة أو للعمل أو... خصوصا أن فرصة الحصول على جواز سفر في اليمن، تفوق بمعاناتها فرصة الحصول على الإقامة الأمريكية ( Green Card).

ولكن شاءت الأقدار أن تتماهى معي هذه المرة، وتمنحني فرصة لاستخراج جواز سفر، وكما يقال "رب صدفة خير من ألف ميعاد"، ودون ميعاد مسبق - حين كنت غارقا في النوم - اتصل بي أحد أقاربي الساعة السابعة والنصف صباحا، وأخبرني أنه قرر السفر إلى مدينة تعز لاستخراج جواز سفر لزوجته، ويريدني أن أسافر معه، لم أكن متحمسا أبدا لهذا القرار، حاولت اقناعه أن توقيت السفر خاطئا، ولابد أن نؤجله لأسباب عدة، لم يقتنع قريبي بكل تبريراتي التي اعتبرها هو تشاؤما، واعتبرتها أنا ضربا من أساليب التخطيط لكل القرارات التي نتخذها وفقا للظروف المحيطة بنا.

تمخض نقاشنا ذلك بالمغامرة والسفر إلى محافظة تعز التي تبعد عن صنعاء بما يقارب 256 كيلو متر، وهي المسافة التي يقطعها الناس في ظل الظروف الطبيعية للبلاد، ولكن في ظروف الحرب تصبح المسافات أطول والمعاناة أعظم.
فقد استقلينا سيارة لأحد الأشخاص الذين تربطنا بهم علاقة صداقة، وهو السائق الخطأ أيضا، ومن المجازفة الغبية أن يُعتمد عليه لقيادة السيارة في الأسفار البعيدة، فالأسفار البعيدة تحتاج سائقا جيدا يوازن بين الأخذ بالأسباب والقضاء والقدر، فليس أسوأ من ذلك السائق الذي يقود سيارته المتهالكة في رحلة مجهولة المصير - ثم يحدثك عن القضاء والقدر - والتي ما إن تتجاوز سرعتها ال 70 كيلو/س، حتى تبدأ بالارتجاج ويصيبها الإنهاك وكأنها شيخٌ مدمنٌ على تعاطي السيجارة، يستهلك الجري كل طاقته في ثوانٍ معدودة.

مضى الوقت ببطئ شديد، مع تلك المصاعب التي ترهق المسافر وتزيد من معاناته، فالمطبات -الترابية والاسمنتية والصناعية والاسفلتية - الممتدة على طريق صنعاء - تعز قد يفوق عددها المئات، فبائع الماء - والبطاط والمشاقر والفل والجوافة والدبى والطماط والفل - يستحدث مطبا بارتفاع نصف متر، من أجل أن ينفق بضاعته دون اكتراث ومسؤولية لما تسببه هذه المطبات من حوادث تزهق أرواح المسافرين وتحول دون وصولهم إلى وجهاتهم المختلفة.

حين تكون مسافرا تصبح ريالاتك لا قيمة لها، فأصحاب المحال التجارية يرون المسافر فرصة لا تتكرر ولن تتعود مجددا، فيقومون باستغلاله استغلالا قبيحا يكشف مدى اللؤم الذي يسكن نفوسهم، فتجد السلع بأسعار مرتفعة يصل بعضها ضعف السعر الذي تباع به في المدن وغيرها... حتى تلك المطاعم الفخمة التي تُبنى على قارعة الطرق الطويلة هي أسوأ ما يمكن أن تجده في السفر، فقد تمر ساعة من الزمن دون أن يقدم لك الطعام الذي طلبته، فهي تعمل تحت شعار "خدمة النفس عبادة" - أي على المسافر أن يخدم نفسه - وليست سوى مشاريع سيئة السمعة تقوم على استثمار معاناة المسافرين المضطرين لتقبّل الخدمات فيها نتيجة لانعدام البدائل، وحاجة المسافر إلى معدة مليئة بالطعام تضمن له الصمود والتغلّب على وعثاء السفر.

معاناة من صنف آخر

بعد أكثر من 8 ساعات من السفر، وصلنا محافظة تعز وبالتحديد مديرية الحوبان، وهي المديرية التي تعتبر بحد ذاتها الترانزيت الذي يتوقف فيه المسافر ليأخذ نفسا طويلا، ثم ليواصل المسير إلى مدينة تعز. فالسفر من الحوبان إلى مدينة تعز يعتبر بحد ذاته رحلة طويلة مليئة بالمخاطر والصعوبات التي خلفتها الحرب القائمة منذ ما يقارب الخمسة أعوام، فالطريق الرئيسية التي كان يمر عبرها المسافرون من الحوبان إلى تعز - خلال 20 دقيقة - مغلقة بسبب المواجهات المسلحة والألغام المزروعة هناك، وهو الأمر الذي دفعنا لأن نسلك طريقا آخرا وعرا - وبسيارةٍ وسائق آخر أيضا - يمر على العديد من السلاسل الجبلية المحاطة بالأخطار، وهو الطريق الذي يعود بنا إلى الماضي 30 عاما، فلا يمكن أن تسلكه سيارة عدا عن السيارات القديمة (الصوالين) موديل 1985 أو 1990 كونها تتميز بمتانة وقوة كبيرة، قلما تجدها في السيارات الحديثة ذات المواصفات الفخمة. ففي تلك الطريق تشعر أن السيارة تتسلق الجبال لتصل إلى القمة، ثم بلحظة فارقة تهرول بالنزول ولكن من طريق آخر، حينها يكون لسان المسافر مشغولا بالتسبيح والاستغفار متناسٍ لصوت الأغاني اليمنية، الآتي من السماعات الحديثة لتلك السيارة القديمة.
كانت الأغاني تتغير بوضع تلقائي كلما أنتهت واحدة بدأت أخرى، فالسائق في تلك الطريق الخطرة يترك مهمة تبديل الأغاني، ويظل منهمكا بالتحكم بمقود السيارة، فخطأ واحد يمكن أن يحدث كارثة كبيرة. كل الأغاني لم تعبر عن وضعنا في تلك الطريق المحفوفة بالأخطار، عدا عن أغنية وحيدة خطرت ببالي حينها " اطلع جبل انزل سهل..امشي على دروب الخطر..فدوه لعيون الغالي". ومن أجل عيون الجواز ذقنا مرارة السفر. ربما ليس من المعقول حشر الأغاني في هكذا مواضيع ولكن أحببت نقل الواقع كما هو.

سبع ساعات هو عمر المعاناة التي عشناها في تلك الطريق الجبلية الوعرة، لينتهي بنا الوصول إلى مدينة تعز في الساعة الثالثة فجرا، خائرين القوى، وقد بلغ التعب منا مبلغا عظيما، وسرقت منّا الطريق كل ما بحوزتنا من مفردات الصبر والتحمل.

تلك هي رحلة البحث عن جواز سفرٍ - يقع في ذيل قائمة الجوازات الأقوى في العالم - لا يستطيع الحصول عليه إلا الراسخون في الوساطة والمال، رحلة سيئة الذكرى نحتت في ذاكرتي، أبشع ما يمكن أن يتخيله إنسان عن آثار الحرب التي يعاني منها الشعب اليمني.