الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١٠:٠٢ صباحاً

أنا واليمن والنيل بين مرحلتين 1

اسكندر شاهر
الأحد ، ١٨ ديسمبر ٢٠١١ الساعة ١١:٤٠ صباحاً
يُقال أنّ من شرب من ماء (ميّة) النيل لابد له من عودة .. هكذا يقولها المصريون ولكن بلهجتهم الخفيفة واللطيفة والتي يعرفها العرب جميعاً حتى لكأنها لغة وليست لهجة .

وفي صيف العام 2000م كانت زيارتي الأولى للعاصمة المصرية القاهرة .. أتذكر أنها أتت بعد توقيع اتفاقية الحدود أو صفقة البيع والشراء المعروفة باتفاقية جدة لترسيم الحدود اليمنية – السعودية التي باع بموجبها علي عبد الله صالح الأحمر الأرض اليمنية التي كانت مستأجرة بموجب اتفاق الطائف 1934م ، وقبض صالح ثمن الصفقة وتقاسم معه الثمن آخرون أبرزهم الشيخ المرحوم عبد الله بن حسين الأحمر ، الذي قال في انتخابات 2006م ( جني نعرفه خير من إنسي لا نعرفه) ، وثمة أطراف كانت شريكة جزئياً في الصفقة فمنهم من أخذ نصيبه سلفاً ومنهم من يأخذه بشكل منتظم عبر اللجنة الخاصة ، ومنهم من آثر الصمت لقاء مناصب وحصص في حكومات صالح وباقات ترضياته المعهودة والتي حولت السلطة بعد ركود مابعد 2000م إلى وحش (مفترس) والمعارضة إلى مسخ ( مفترش) .

نعم .. فلقد كان ثمة ثمن سياسي يتمثل في تمييع الحياة السياسية وتلفيق معارضة للداخل و إيقاف معارضة الخارج من العمل وإدخالهم التقاعد وكانت جبهة "موج" واحدة من مكونات معارضة الخارج بزعامة الأستاذ الصديق عبد الرحمن الجفري الذي التقيته في القاهرة يومذاك وما كان منه إلا أن رحب بي وأحسن استقبالي تماماً كما رحب بالاتفاقية معتبراً أنها أفضل تسوية لإنهاء المعضلة التاريخية المعلقة والبدء بمرحلة جديدة.
اليوم أعود للمرة الثانية إلى القاهرة ، ولكأني بين مرحلتين ليس فقط على مستوى اليمن بل على مستوى مصر والعالم العربي الذي ظن كثيرون أن حالته لن تتغير ودوماً -وفقاً لهذه الظنون- يقيم السياسيون حساباتهم ونكتشف كثيراً أنهم لا يرون أبعد من أنوفهم .

قبل يومين أقامت صحيفة الدستور المصرية ندوة عن الثورة الشبابية اليمنية وكنت أحد المشاركين بها وفي اللقاء قال لي زميل مصري وهو كاتب (سيناريست) أنه في العام 2008م كتب سيناريو لفيلم عن ثورة افتراضية قد تحدث في مصر بعد مائة سنة ، ولكن الرقابة رفضت التصريح لنص السيناريو ، وظل أشهراً ينتظر الرد ثم بعد أن علم بالرفض شفهياً ظل ينتظر إشعارهم له بالرفض مكتوباً ليقوم بتقديم تظلم ، وبعد أن شكى للصحافة تكرموا بمنحه هذا الرفض مكتوباً .
سأل عن السبب وكانت الإجابة سهلة وبسيطة بالنسبة للمسؤولين وهو كيف تتحدث عن ثورة في مصر وتريدنا أن نمنحك تصريحاً ، حتى لو كانت بعد مائة سنة ، وكأنهم قد ضمنوا حكم مبارك وابنه وحفيده ؟! .
لم تمر مائة سنة بل سوى أقل من سنتين حتى قامت ثورة مصر الشبابية الشعبية في الخامس والعشرين من يناير وأطاحت بفرعونها العجوز المسجون .

أتذكر أن ضابط المطار في العام 2000م ( رضحني) لأكثر من ساعة ونصف بانتظار تأشيرة لدخول المحروسة وكان جافاً ومتعالياً لا يستوحي هذا من شعب مصر البسيط والطيب بل من صورة مبارك التي كانت تعلو كل واجهات المطار ، اليوم أصل مطار القاهرة قادماً من ماوراء المحيطات فلا أجد صورة البقرة الضاحكة ولا ألمس جفاف ضابط المطار ، وليست مبالغة إن قلت بأني خلال عشرة دقائق فقط كنت قد حصلت على جوازي ممهوراً بالختم وأصبحت داخل مصر تلفحني نسائم النيل العظيم .

في زيارتي الأولى لمصر كنت في الرابعة وعشرين من عمري ، حينها كنت أحمل صفة رئيس تحرير صحيفة (ورقية) اسمها ( الخطير) وكانت ساخرة ومهاجرة . كنا نطبعها باستخدام آليات نسخ تقليدية مهترئة كمحاولة شبابية للتغيير مذاك لمجتمعنا اليمني ومحاولة للنهوض به سياسيا وثقافيا واجتماعياً ، تغيّر الكثير منذ ذلك الوقت بمافي ذلك صفتي الإعلامية التي تحولت من صحيفة ورقية إلى إلكترونية فضلاً عن الأزمة التي أشعلت رؤوس المعجبين بها شيباً وباتت ثورة تشعل في رأسي نوراً وناراً ، والأهم من كل ذلك أن الزيارتين تشهدان على مرحلتين سياسيتين في اليمن وفي مصر على حد سواء مع الفوارق التي سنتطرق لها في حلقات مقبلة ، على أن أهم شيء لم يتغير هو أنني كنتُ أنتمي لفئة الشباب ولازلت أنتمي إليها وأفاخر بأن هذه الفئة من المجتمع أثبتت أنها القادرة على التغيير والتضحية والفداء وصناعة الحاضر واستشراف المستقبل ، وأن السياسيين الذين التقيتهم وسألتقيهم مجدداً من (المخضرمين) الشماليين والجنوبيين القريبين من السعودية والبعيدين عنها ، كلهم كبرت أنوفهم لكن رؤيتهم لم تتجاوزها .