الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٢:٢٩ مساءً

جوعان يأكل من زادي ويمسكني!!

بلال الطيب
الاربعاء ، ٠٨ يناير ٢٠٢٠ الساعة ٠٩:٠٩ مساءً
«من قال برأسه كذا، قلنا بسيفنا كذا»، قانون الغاب الذي كرسه الأئمة من بيت «حميد الدين» في سُلطانهم، فأزالوا قيم الحب والتسامح، وبعثروا بكرامة الإنسان اليمني فوق التراب، وكان لهؤلاء الطغاة عساكر «أعفاط» تم تجنيدهم بعناية لقهر الشعب وإذلاله، وتطبيق قانون الغاب بصورة أشمل، كي تعُم مصائبه الصغير والكبير دون استثناء.

كان حال هؤلاء «المُتنفذون - المُنفذون» أشبه بوصف «المـُتنبي» الشاعر:
جوعان يأكل من زادي ويمسكني
لكي يقال عظيم القدر مقصود
وقول «الزبيري» الثائر:
العسكري بليدٌ للأذى فطنٌ
كأن إبليس للشرِ رباهُ

أسس الإمام يحيى حميد الدين ذلك الجيش خالصاً مُخلصاً على أساس قبلي محض، ومعظم افراده كانوا من قبائل شمال الشمال «أبناء ألأنصار - أنصار الله - أنصار الحق»، الذين حاربوا معه الأتراك، وصاروا يعانون من البطالة بعد رحيل الأخيرين، وكان يُسمى بالجيش «البراني»، حيث يتولى أفراده تسليح أنفسهم، وفق رغباتهم، ومن مالهم الخاص، ولأن الخدمة فيه كانت اختيارية؛ فقد ظل قوامه يتأرجح صعودا وهبوطا، وتذكر بعض المراجع أنَّ أعلى سقف بلغه حوالي «50,000» عسكري.

حددت مدة بقاء الفرد في ذلك الجيش من سنه إلى سنتين، ومن ثم يتم إبداله بشخص من أهله أو قرابته، ولكل مجموعة «عريفة» أو «شيخ»، وهو المسئول عنهم، وكان الواحد منهم لا يُسمى جُندياً، بل مجاهداً في سبيل الله، وكانت تسميتهم الشائعة «عُكفي»، وهي كلمة مشتقة من «الاعتكاف»، والمغزى منها: أنهم في حالة «جهاد» و«اعتكاف»؛ ما داموا بعيدين عن أهلهم وقراهم، عبادة لله، وطاعة للإمام!!.

ومن الصفات التي تُطلق على ذلك الجيش أنَّه غير نظامي؛ بل عدو النظام، وكان أفراده يضيقون من الانضباط، ورؤساؤه يرفضون التحديث، ويصورونها للإمام على أنَّها مرهقة للميزانية والأفراد، ووصل بهم الأمر إلى تحريم ارتداء السراويل القصيرة لأنَّها مخالفة للشرع، وغيرها من الأمثلة المُضحكة المُبكية التي لا يتسع المقام لذكرها.

الغرض الأول من وجود هذا الجيش يرجع إلى رغبة الإمام في مُنافسة الجيش النظامي، فهو لا يريد لهذا الأخير أن يكون جيشاً قوياً حتى لا ينقلب عليه، فـ «البراني» يعتبر الأصل في نظر الإمام يحيى وأسلافه، لأنَّه الجيش الوفي الذي عاصر الجميع، ووقف في كل الحروب إلى جانب الأئمة؛ لذلك كانت له الأسبقية في كل الأحوال والظروف.

أفراد ذلك الجيش دائما في حالة تحفز للحرب، وأغانيهم وأهازيجهم أغاني وأهازيج حرب، والعسكري منهم يحظى باحترام من يعمل في معيته، وكان يُبدي العامل سروره بأن يكون ذلك العسكري في رفقته، فهو بالإضافة إلى مسنده القبلي، غليظ الطباع، لا يتهاون في أمور الجباية، ولا يعرف قلبه الرحمة.

تتلخص مهام ذلك الجيش في «الخطاط، التنافيذ، المأموريات»، وقد تناولنا تفاصيل هذه المهام المتصلة بـ «الجبايات» في مقالاتنا السابقة، والويل كل الويل للرعية إذا لم يحسنوا استقبالهم، فعندئذ يقوم العسكري «المنفذ» بإطلاق رصاصة في الهواء، تسمى «تضميره»، ويعود إلى العامل ويدعي أنَّهم «ضمروه»، فيرسل الأخير على الفور مجموعة من العساكر لتأديبهم.

توجد في «المقام، والألوية، والقضوات» شعب خاصة بـ «التنافيذ»، وتوزيع «المأموريات»، وهناك يتسابق العساكر لشرائها مُقابل مبلغ من المال يدفعونه للمسؤول عنهم «رشوة»، تتفاوت من «أمر» لآخر، فكل منطقة لها ثمنها، وهذا التهافت سببه أن أجرة «التنافيذ» تساوي مرتب عدة أشهر من رواتبهم التي لا تتعدى الخمسة ريالات، كما أنَّ الأكل الذي يأكلونه عند الرعية لا يجدونه في ثكناتهم، والضيافة التي يحضون بها لا يجدونها عند أهلهم؛ ولذلك كانت هذه المهنة محببة عند هؤلاء، وبسببها نجح الأئمة في ايجاد ذلك العداء السافر بين الرعية والعساكر.

في رسالة طويلة بعثها أحد الأحرار إلى الجامعة العربية، مُنتصف خمسينيات القرن الفائت، قال فيها كلاماً كثيراً عن أولئك العساكر المتوحشون، وذكر بأنهم يعبثون بحقوق الرعية بصورة تفزع لها النفوس، وتُنكرها الأخلاق الكريمة، وتغضب لها شريعة الوحوش، وأرجع ذلك إلى نشأتهم الأولى القائمة على الشراسة، والحقد، والحرمان.

وأضاف: «وقد يبلغ اللؤم في نفوس هؤلاء العسكر أن يصروا على أن يستقبلهم الرعية بالطبول والمزامير، وبعضهم لا يكتفي بهذا؛ بل يبلغ به التعنت أن يشترط على الرعوي بتوسيع باب بيته حتى يدخل الدار والبندقية في وضع أفقي، وبعد الغداء يقومون بمضغ القات، ويحيط بهم بعض المُغنيين والمُسوطين من رجال ونساء القرية، وصاحب البيت وأولاده واقفون للخدمة، ثم تمر الشهور وهم على هذه الحالة يتنقلون من قرية إلى أخرى، والحقوق التي تجمع تحمل على دواب العشائر المُسخرة».

وأردف: «وقد تبلغ بهم النكاية إلى أن يتطلعوا إلى عورات النساء، ومطاردتهن، وإجبارهن في بعض الأوقات على الفاحشة، ولابد لصاحب البيت أن يطلق لهم الحرية للاطلاع على كل ما يحويه البيت، ويتغاضى عن اقتراف أشنع الجرائم التي تلحق بشرفه، وإلا ضربوا جسمه بالسياط».

كان هؤلاء العساكر المُتوحشون يتباهون بأفعالهم تلك، وهناك أشعار تؤكد ذلك، منها هذا الزامل:
حين قالوا: هيا شرق يا قبيلي
قُلت هيا مَره، قومي وهاتي صميلي
أصبحت بين دولتين أغتنمها
شـوري اليَوم شـور، والقيل قيلي
قبلما يسبروا يسـدوا علي
ذاك يا صنو لك، وهاذاك لي.. لي
وانت سر لك هناك واذبح وهات قات
واعصدي يا مره، وزد يا قبيلي
أجرة العسكري والا باب سيدي
القصب والحبوب وأدي حمولي

وسبق لإحدى شاعرات الضالع أن صورت ذلك المشهد الـمُـتكرر، وعلى لسان أحد العساكر بالقول:
يا ناصبي بادر
بالصبوح عجل
ولا فلا بد ما نربطك
وتدي الحق والباطل

وهذا «أبو الأحرار» الشهيد محمد محمود الزبيري، نقل لنا في إحدى مسرحياته صورة مُصغرة لذلك التوحش، عبر مساجلة بديعة اختزلت كل المعاناة:
«العجوز»:
يارب كيف خلقت الجند ليس لهم
عندي طعام ولا شاة ولا نعم
ويلاه مالي أرى وحشاً وبندقه
أذلّك العسكري الغاشم النهم؟
«العسكري»:
نعم أنا البطل المغوار جئت إلى
عجوزة لم يهذب طبعها الهرم
إنا جنود أمير المؤمنين فلِمَ
لا تذبحي الكبش يا حمقاء دونهمو؟
اين الدجاجة؟ أين القات فابتدري
إنا جياع وما في حيكم كرمُ

«العجوز»:
يا سيدي ليس لي مال ولا نشب
ولا ضياع ولا قربى ولا رحمُ
إلا بُنَي الذي يبكي لمسغبة
وتلك أدمعه الحمراء تنسجمُ
وهذه البيد فاقطف من هواجرها
ما شئت إنا إلى الرحمن نحتكم
ماذا يريدون من جوعي ومسغبني
إني لكالحمل المشوي بينهم
يطلبون زكاة الأرض ليس بها
إلا الحمام وإلا الحجر والرخم
أم جزية الكوخ لا كانت جوانبه
السوداء ولا نهضت في ظله قدم
أم قيمة القبر قبل الموت واأسفاه
الكوخ قبري فما للظالمين عموا؟
«العسكري»:
إني إذن راجعٌ للكوخ أهدُمُه
يا شافعية إن الكذب دأبكموا

وقال «الزبيري» في قصيدة أخرى:
جَهْلٌ وأمراضٌ وظلمٌ فادحٌ
ومخافةٌ، ومجاعةٌ، وإمامُ
والجيشُ يحتلّ البلادَ وما لَه
في غيرِ أكواخِ الضعيفِ مقامُ
يَسْطُو وينهبُ ما يشاءُ كأنّما
هُوَ للخليفةِ مِعْولٌ هدّامُ
نثرُوا بأنحاءِ البلادِ ودمّرُوا
عِمْرانها فكأنهمْ ألغامُ
أكلوا لُبابَ الأرض واختصُّوا بها
وذوُو الخصاصةِ واقفون صيامُ

وقبلهم بـ «100» عام قال الشاعر أحمد بن شرف الدين «القارة» قصيدة شعرية طويلة عن هؤلاء العسكر القبليون، جاء فيها:
القبيلي عدو نفسه
صدق، قد قالها المجرب
كم يطيش في الظلال حسه
حين تشرق وحين تغرب
حق برميل يسد نخسه
ويدزه وهو مسنب
وبشامق تدوس ظهره
وفرق كل اليوم فرقة
وزناجير تفك صدره
كل حلقة تلز حلقة
وحزم أثل تكد جحره
كل ضربة تشل نتفه

حين زار الرحالة الدنماركي - الألماني المولد - كريستن نيبور اليمن في عهد «المهدي» عباس «1763م»، تحدث عن أحوال عساكر ذلك الزمان، وهي تفاصيل بمجملها تتشابه إلى حدٍ ما مع ما ذكرناه أنفاً، ومن ضمن ما قاله: أن الواحد منهم - يقصد العسكر - يستبسل في خدمة وإرضاء الإمام، وإذا كان ثمة مواجهة فإنه يربط ساقه إلى ركبته، ويستمر في إطلاق النار على أعدائه إلى أن يفنيهم أو يفنوه.

وأضاف: «يحتفظ الإمام بقوات من الجنود لم استطع معرفتها بالضبط، إلا أنَّه يعتقد بأنها تبلغ حوالي أربعة آلاف من المشاة، وألف من الخيالة، جند معظمهم من حاشد وبكيل، والرؤساء الأربعة لهذا الجيش، هم مشايخ همدان، ووداعة، وسفيان، وخولان، وبجانب هؤلاء الضباط العموميين الأربعة ذوي الأنساب العالية، يوجد هناك أيضاً نقباء كثيرون، هم أدنى نسباً، وبعضهم كانوا عبيداً في شبابهم، ووظيفة نقيب هي أعلى مرتبة يمكن أن يمنحها الإمام، أما مرتبة شيخ فلا تمنح إلا بالنسب»، أما أسلحتهم فهي الرماح وسيوف المبارزة، وبعضهم يحمل المسدسات في قراب السروج، والجميع لا يعرف شيئاً عن الملابس الرسمية، وكل واحد منهم يلبس ما يروق له.

وقد أشتهر أولئك العسكر - طول الوقت - بـإدمانهم لـ «البردقان - الشمة»، و«الحشيشة»، و«الخمرة»، وكانوا يفرضون «الجزاءات» المالية على الناس، في سبيل الحصول عليها، وفي ذلك قال العلامة ابن الأمير الصنعاني:
وأما الجزاءات التي كل ليلةٍ
سياراً تسمى وهي إحدى الفواقرِ
ففي بردقانٍ أُنفقت وحشيشةٍ
وخمرٍ لخمارٍ ولهوٍ لسامرِ

وأختم بالقول: أن هؤلاء العساكر الذين عاثوا في ربوع «اليمن الأسفل» فساداً وإرهاباً، كانوا هم جميع «جوارح» الإمام التي يبطش بها، وكانوا أيضاً دعامة وسند نظام بيت «حميد الدين» البائد، وأسلافهم، ولولاهم لما استمر مخاض ثورة «26 سبتمبر 1962م» لأكثر من سبع سنوات، ولولاهم ما عادت «الإمامة الزيدية» لتكشر عن أنيابها من جديد.