الثلاثاء ، ١٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠١:٤٣ مساءً

التعايش مع الوباء

فكرية شحرة
السبت ، ٣٠ مايو ٢٠٢٠ الساعة ٠٩:٤٧ مساءً

لا ندري، ونحن في منتصف هذه السنة العصيبة، هل حان الوقت لتسجيل تلك التفاصيل التي أحدثتها فينا؟    هل حان الوقت أن نكتبها كمرحلة عجيبة عاشتها البشرية، أم أن الأيام حبلى بما هو أقسى؟    إنها أيام تستحق أن تترصد الأقلام خباياها، ففيها اكتظاظ للمشاعر، وملاحم من القصص التي تشاركت فيها الإنسانية جمعاء في آن واحد.     لن نكتب عن تفشي الوباء وأعداد الموتى والقبور؛ بل عن ذلك الوجع الذي عانته البشرية وهي تتابع محصلات الموت؛ عن تلك المخاوف النفسية التي هزمت الكثير، أكثر مما هزمهم المرض.   لن نتحدث عن آثار هذا الوباء على الاقتصاد، وتغيير السياسات القادمة، وتهاوي الأنظمة الفاشلة..    لن نتحدث عن فرادة الوضع في يمننا، وغرابته في زمن الطاغوت..    حين أصبحت المستشفيات أوكار للموت المشبوه؛ وهروب المرضى أفضل الحلول لمواجهة المرض الفتاك، حين انتفى عن عائلة الميت حق السؤال عن سبب موت الضحية..!    عن أصحاب الأمراض المستعصية والمزمنة، كالكلى والسرطان، الذين لم تقبلهم المستشفيات وقضوا نحبهم بمناسبة الانشغال بمرضى الوباء..!    لن نتحدث عن العجز المعروف والمسكوت عنه خلف أبواب الفقراء..   سنكتب عن تلك الجوانب التي يعدها البعض غير جديرة بالحديث في خضم الموت الفتاك والوداعات القاصمة..    عن هذا الإنسان؛ ما أضعفه وأعجزه!! ينتابه ألم النفس فيرى أنها نهاية الكون؛ تصبح مباهج الحياة في عينيه من الشنائع؛ حتى كأنه يستهجن راحة الآخرين!!   يجد أن عذاباته جديرة أن تخسف لها شمس أهل الأرض؛ يعيش بين الناس كالطيف لشدة هزال روحه وسقمها!!..   كل شيء يبكيه ويعذبه، حتى نفوق حشرة داس عليها طفل دون إدراك كأنما داس على روح بتفاهة روحه هو !!    ويصيب جسده المرض، فتهجم عليه الحمى وتثقل أنفاسه، ويمسي حاملاً رأسه بين كتفيه، كقدر يغلي من الألم لا يدري كيف يطفئه ولا أين يذهب به!!   لا الأرض تقبله ولا النوم يقبل عليه؛ أحشاؤه تتدافع من جوفه كلسع السياط، حتى تكفئه على وجهه كتنك فارغ إلا من صليل أعضاءه.   يتقلب من وجع إلى وجع، لا يدري أيها يفتك به؛ آلام الروح، أم آلام البدن؟!   ومع هذا ما أشد استهتاره بالاحترازات البسيطة كي لا يسقط عاجزا ككيس من الجلد يسكنه الأنين والوجع..!!     هكذا يبدو الأمر: كل شخص يرى نفسه بمنأى أن يصاب بالمرض!! لا أحد يدري من أين تأتي الثقة لهذا الإنسان أنه ليس على رأس القائمة، وأن الموت خنقا سيتخطاه لنواياه الطيبة بحياة طويلة من أجل تحقيق أحلامه المؤجلة!    سنكتب عن حياتنا اليومية التي تاهت فيها أنفسنا حين اختلط الليل بالنهار؛ عن واجباتنا التي خادعنا فيها أرواحنا حين تكتظ الأسواق والمساجد مغلقة..    عن تلك القلوب التي فصلها الحجر والهجر؛ وكان الوباء خير حجة يقدمها إنسان لإنسان..   عن شعار "نفسي نفسي" الذي رفعته الدول والأفراد، وكأننا في تهيئة ليوم القيامة..!    عن التعقيم، الذي رافق أحاسيس الكثير وجمد مشاعرهم فصارت عقيمة!   عن حل التباعد، الذي أشبع البعد وقطع الأواصر، وصارت علاقاتنا صحراء قاحلة..   عن تدمير العادات والحياة الاجتماعية والأمن النفسي نحو الآخرين؛ عن كل المواعيد التي ألغيت والأحلام التي تأجلت؛   ‏عن ارتهاننا الدائم للآخرين، وانتظار الخلاص من مجهول مثلما ننتظر المرض حين يأتي صدفة من مجهول لا ندري من أين أو مِن من؟!   عن هذا العجز والذهول الذي ضرب الأقوياء قبل الضعفاء لتتساوى احتياجات الجميع ولو ظاهريا.   لعل أقسى ما في هذا الوباء، أننا عند المرض نصل إلى أقصى درجات الحاجة للآخر !! هذا الآخر الذي ينبغي أن يبتعد كي لا تصبه العدوى!    فهذا موسم الفقد الجماعي، ولأن تفتقدهم بالحجر والبعد، خيرا من أن تفتقدهم بالموت.   لذا نجد من يملك الوعي، يعزل نفسه خوفا على أحبته؛ فأن تموت منفردا أفضل بكثير من سلسلة من الأحزان تلحقها خلفك.   لا يحتاج المرء في وجعه سوى كلمة حب وتطمين عن بعد، تشعره أن له ذات المكانة التي للآخرين من حوله.   لكم هو صادم أن  يتركنا أولئك الذين نحتاجهم أكثر من أي شيء آخر؛ فحتى الذاهبون إلى الموت يتمنون أن يمسك الأحبة أكفهم عند الوداع.     أخيرا.. يبدو أن فكرة التعايش مع هذا الوباء صارت واجبة، تماما كما تعايشنا مع فكرة الحروب بين البشر.    ولعلها فكرة أكثر رحمة حين يكون قاتلك مجرد فيروس لا يمت للإنسانية بصلة.