الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١٠:٤٠ صباحاً

الإنترنت العجيب

هاني غيلان
الاربعاء ، ٢٢ فبراير ٢٠١٢ الساعة ١٢:٤٠ مساءً
غريب أمره هذا الإنترنت.. غريب جداً.. فأين كان قبل عشرين سنة فقط.. لم يكن شيئا مذكوراً.. واليوم صار يتحكم بمصائرنا ويسيطر على مفاصل حياتنا بجدارة - بخدماته اللا محدودة وكرمه اللا معقول - فبضغطة زر واحدة سيخبرك بنبأ كل جديد ويقرب لك البعيد ويحقق لك ما تريد، حتى غدا كالفانوس السحري أو كـ (عفريت سليمان) الذي أعلنها يوماً ما على الملاً بثقة عظيمة متباهياً بقدراته الرهيبة وسرعته الفائقة – لا أدري كم جيجا بالثانية – قائلاً ((أنا ءاتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين))..

وكأني به اليوم ينحني لصاحبه: شبيييك لبيييك أطلب ما تمنيت (ترجمة نصية، معلومة تحتاجها، تاريخ نسيته، مقولة شهيرة، كتاب، قصيدة، رواية، محاضرة، توشيح، موال، أنشودة، أغنية، فيلم قديم، برنامج معين، وثيقة، مستند ما، خريطة لمعالم مدينة تزورها، صورة من الأقمار الصناعية، تحديث، تحميل، تنزيل،...) حااااضر، من عيني يا سلطان زمانك، إعمل رجل على رجل وأكتب المطلوب فى خانة (محرك البحث) وإعرف أمووور!!

والأهم من ذلك، فهو يعد أيسر طريقة لتسديد الفواتير والإطلاع على أسعار العملات والأسهم والخدمات المصرفية، والبحث عن: (النتائج، الأخبار، الأصدقاء، الوظائف الشاغرة، السيارات، العقارات، المنتجات، الكتب بما فيها تلك الممنوعة من النشر، الإجابات الحساسة الهامة والحلول للمشاكل المؤرقة) فضلاً عن تلك المساحات الكبيرة الحرة لطرح أفكارنا، قناعاتنا، وإتجاهاتنا..!!

بالمقابل فهو يوفر طرق مبتكرة للتجسس والإختراق والتخريب والتحايل والغش والنصب والربح السريع، ويدع الأبواب مشرعة لأصحاب الألقاب المستعارة والنفوس المعتلة الذين يستهويهم العبث بعواطف الآخرين وإستغلالهم أو إيذائهم والتحريض عليهم والتشهير بهم وقذفهم علناً مع الإفلات من أي عقوبة!!

وهكذا، فللمواقع الفاضحة روادها وناسها، ولمواقع التسلية والدردشة وتضييع الأوقات والعلاقات العابرة هواتها ومدمنوها، ناهيك عن مواقع التعارف والحب والزواج والمسيار التي اشتهرت ولا أشطر خطابة في زمانها، أما البريد الإلكتروني فقد قرأنا عليه الفاتحة يوم أصبحت تصلنا كل يوم عشرات الرسائل المضحكة المبكية على شاكلة: ((راسلنا.. مبروك لقد ربحت سيارة BMW موديل 2012)) من يومها ضاعت رسائلي الهامة بين ركام العشوائيات!!

حتى أضحى هذا الإنترنت كـ (سراب بقيعة) أو كمن يبيع الأوهام للاهثين خلفها في (سوق عكاظ) حيث الكل يقدم نفسه ويعرض بضاعته، في مزاد علني مكشوف، الرابح الحقيقي فيه هو من يجيد فن الإستحواذ على القلوب وجذب الأنظار إليه، وخطف عقول الجمهور المسحور وتقييده من يديه ورجليه - حتى لا يذهب بعيداً - ذلك الجمهور المسكين الذي لم يعد يعرف أين يحط الرحال، وإحتار ماذا يختار ولمن يسمع بين الشُعار، فأمست تتجاذبه اللافتات والعروض اليوتيوبية والجروبات الفيسبوكية والمنتديات والمدونات التي صارت بالآلاف بل بالملايين، فتاه هائماً على رأسه وتخبطت به الأهواء في كل واد!!

وهنا أتفق تماماً مع الرأي القائل أن هذه الشبكة المعلوماتية (سلاح ذو حدين) فهي أعظم إختراع بشري وأقرب مكتبة معرفية شاملة متاحة للجميع، رغم عدم مصداقيتها دائماً وإختلاط الحابل بالنابل والغث بالسمين فيها.. وشخصياً عانيت وأعاني من مشكلة بحثية خلال دراستي للماجستير، وهي أن كمية الكتب والمراجع الكثيرة التي يمكن أن أستنسخها من الأنترنت في دقائق قليلة قد تحتاج لأيام وأسابيع طويلة لمجرد المرور عليها وتصفحها سريعاً، فمن أين لي كل ذلك الوقت..؟

أصل المشكلة برأيي، أن الكل صار يؤلف وينشر ويترجم مقتبساً من الآخرين ومقلداً لهم - بشكل فج ومفضوح وممل – موهماً إيانا بأنه ذاك المخترع العليم ببواطن الأمور، الحريص على مصلحتنا أكثر من أنفسنا، موحياً إلينا أن (مبروك لقد ربحتم) مبروك فالعالم بين أيديكم القابضتين على الفأرة ولوحة المفاتيح، فهلموا هلموا فقد فزتم أيها المحظوظين.. فلا تقوموا من مقامكم ولا تتعبوا حالكم، فنحن في خدمتكم طوع بنانكم، وننتظر إشارة من إبهامكم أو بالأصح ضغطة ENTER..
ربما ربحنا، لا أدري.. لكن (ما ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه)!!