الخميس ، ٢٥ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٥:٤٩ مساءً

الاموات يرشدون الاحياء !

د . أشرف الكبسي
الجمعة ، ٢٣ مارس ٢٠١٢ الساعة ١١:٤٠ صباحاً
يتطلع اليمنيون اليوم إلى المستقبل بعيون ملؤها الأمل والتفاؤل ، يحلمون بغد أفضل ينسيهم مرارة الحاضر، والآم الماضي القريب والبعيد ... فتتعالى الاصوات هنا وهناك بدعوات التأصيل لعهد جديد ، وميلاد يمن جديد ، لا يمثل تاريخه – ولاسيما السياسي - القديم والحديث إلا ذكريات بائسة ، يتوجب نسيانها أو تناسيها !

ولكن تلك الدعوات قد أغفلت – عن وعي أو دون وعي – أن الآمال والرغبات مهما كانت سامية لا يمكنها تجاهل الحقائق مهما كانت قاسية ، وأن الأحلام وحدها لا تكفي لبناء اليوم والغد ، كما لا تكفي حبات الأسبيرين لعلاج السرطان ، وأن تزييف التاريخ أو اهماله قطعاً سيفسد الحاضر والمستقبل !

لم يتورع النظام لعقود من الزمن عن اختزال تاريخ اليمن واليمنيين ، وتوظيفه سياسياً في سياق رؤيته البراغماتية الضيقة ، فعمد تارة إلى إبراز مساوئ الماضي في مقارنة غير موضوعية بمنجزاته الآنية (الهشة) ، وتارة اخرى تفنن في تحوير وتحويل الماضي إلى شماعة يعلق عليها قصور ادائه ويعزو اليها اخفاقاته في البناء والتنمية ، ولتحقيق ذلك تم توظيف الأقلام والإعلام لإظهار صورة مجتزئة ومهترئة من تاريخ اليمن أفضت إلى تكريس حالة من الانقطاع الحضاري ، تسببت في فقدان اجزاء من الذاكرة ، بل وجزئيات من الهوية الوطنية !

وكما لم يتورع النظام عن رسم صورة مغلوطة ومشوهه لألف عام – سبقت قيام الجمهورية - ، وتأطيرها في مربعات الجهل والتخلف والفقر - وهو ما يعني ضمنياً الانتقاص من حضارة اليمن ، ووصم شعبها تاريخياً بما لا يليق من الاستكانة المهينة والخضوع المذل لنظام حكم جائر و نمط عيش فاسد - فإنه ايضاً اختزل كتابة تاريخ الثورة والجمهورية والوحدة ، واجتزأ مشاهد بعينها تخدم سياساته وتوجهاته في تثبيت دعائم حكمه، لتغييب بذلك حقائق تاريخية هامة طالما مثلت فجوة معرفية في الوعي المجتمعي ، لتبقى التساؤلات بلا اجابات وعلامات الاستفهام الحائرة ... حائرة ، تهمس احداها :كيف ومن قتل الرئيس الشهيد ابراهيم الحمدي..!

ولاشك أن تلك السياسات والممارسات المجحفة بحق ذاكرتنا التأريخية تعد سبباً رئيسياً في إضعاف المناعة الوطنية ، وركيزة أساسية في تصنيع وتخليق البنية السياسية والاجتماعية والثقافية المفككة القائمة ، وما تمثله من بيئة خصبة للاستيعاب اللاواعي للتوجهات الفكرية والعقائدية المشوهة والدخيلة ، سواءً تلك التي حملتها إلينا رياح السموم والهيمنة الغربية أو تلك التي وفدت علينا عبر وصاية الجوار الجائر..!

إن التحدي اليوم لا يكمن فقط في تحقيق ما نسميه النجاح ، ولكن في مفهومنا لذلك النجاح وقدرتنا على إبقائه مستمراً ، بل ومتطوراً ، وهو ما يتطلب دوماً العودة إلى الوراء لإجراء قراءات التقييم لتحديد ايجابيات وسلبيات المرحلة ، بوصفها رافداً هاماً في استخلاص الدروس والعبر اللازمة لتصحيح المسار الآني ، فحاضر اليوم ليس إلا ماضي الغد ...

فإذا سلمنا مثلاً بنجاح ثورة سبتمبر في تغيير نظام الحكم ، فإن ذلك التسليم يتراجع عند الحديث عن تطبيق مجمل الاهداف والغايات الثورية وصيرورتها واقعاً معاشاً ، وليس شعاراً نطعمه للشعوب في احتفالاتنا الوطنية والرسمية...فقد تغيرت صورة النظام الملكي ومسماه ، ولكن الواقع لم يتغير كثيراً ، ولهذا ليس إلا قامت ثورة الشباب اليوم ، وإذا كنا قد فاخرنا بتحقيق الوحدة اليمنية ، فإننا نستشعر اليوم خوفنا من ضياع ما تحقق ، ونقر جميعاً بعدالة القضية الجنوبية وضرورة معالجتها ، لأننا ندرك أن التوحد الجغرافي قد تحقق ، لكن الانفصال المجتمعي في المقابل قد تعمق ، وهو ما يقتضي العودة خطوات إلى الوراء لاستكشاف مواطن الخطأ والضعف ومكامن الخلل والانحراف في تطبيق تجربتنا الوحدوية ، في محاولة منا لإصلاح ما يمكن اصلاحه وتدارك ما ينبغي تداركه ..!

إن إعادة كتابة التاريخ – وطباعة الكتب والمناهج بموضوعية ونزاهة وشفافية ، بتجرد تام من الاهواء والرغبات والانفعالات ، بعيداً عن المؤثرات الآنية والأنانية ، ومحفزات الانتفاع أو الخصومة سياسية كانت أو مذهبية أو عنصرية - بات يمثل اليوم ضرورة وطنية ، وأولوية ثورية مطلقة تجنبنا الزلل على طريق التغيير المنشود.

ختاماً ...عندما يحدث الانقطاع الحضاري من خلال اهمال التجربة التراكمية للماضي ، فإن المجتمع يصبح اقرب الى العيش في حالة من فقدان الوعي ، حينها يعيش في دائرة مغلقة من تكرار ارتكاب الاخطاء بلا انتهاء ، فهل آن الأوان للخروج من حالة الدروشة وإغماض العيون وترديد شعارات براقة عن المستقبل ، والبدء في فتح اعيننا وعقولنا ومواجهة تنين الحاضر بشجاعة والنظر في تاريخ عينيه بصدق، وهل ندرك اليوم أن الأموات يرشدون الأحياء ، وأن ألم الماضي كإزميل النحات قد يجعل حاضرنا اكثر كمالاً ..!!