الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٣:٠٢ صباحاً

الإقصاء من السلطة إلى الحراك

د. أحمد عبيد بن دغر
الخميس ، ٠١ يناير ١٩٧٠ الساعة ٠٣:٠٠ صباحاً
في الجنوب، يبدو الرئيس صالح كما لو أنه خسر قضيته، كما يبدو الحراك في طريقه لخسران قضيته هو الآخر.

تسريح المخاوف بعد حرب 94م لم يحل المشكلة، عاد الخوف المُسرَّح ثانية للخدمة، فوضى منفلتة في مواجهة نظام كثير العبث والفوضوية.

ما يحدث الآن حصاد لتعامل السلطة الأرعن مع قضايا الوطن والمواطنين، هذا الجهد المهدور في الاشتباك مع المهددات المحتشدة والخطابات الغامضة، الملتبسة، كان القليل منه فقط يكفي للاشتباك مع المشكلات الحقيقية وتسويتها كي لا تظل مواد تهييج وتأجيج وفرص نقمة تجتذب العاطلين في زمن الكساد، وكي لا تبقى ميادين مفتوحة لممارسة النزق من قبل مغتصبي الأدوار وخاطفي معاناة الناس وراكبي كل موج.

ما يحدث الآن، إعلان متأخر عن هزيمة الانتصار، الذي وقف عند لحظة “البسط” بحسب الثقافة الحاكمة، حيث بدأت سياسة الإزاحة، والإقصاء، والإحلال، واقتراف الأخطاء، وعلى أطراف المدائن المثخنة جريحة المشاعر اتجهت جهود لنزع الألغام المزروعة في الأرض في حين كانت جهود أكبر منها تبذل لازدراع ألغام أخطر في الصدور والعقول.

كان على السلطة أن تخفف الوطء وهي تعدو فوق مناطق مُفتَّحة الجراح، كانت مرحلة إعادة بناء لليقين وللثقة، إعادة إحياء للأمل، انتظار لخوض معركة مع التحديات والمشكلات، ولملمة أشتات الروح، وسيرٌ نحو الانتصار الكبير، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، الحاكم سار بعيداً مُخدَّرا بوهم النصر، سار بعيدا عن المعركة المنتظرة باتجاه تعميق هزيمته.

في منطقة تعقَّد فيها الوضع، لا خطأ بسيط، ما تراه يسيرا ويمكن حدوثه هنا قد يرشَّح هناك لكارثة، تختلف الحساسية تجاه الأخطاء،عوامل كثيرة تصنع الفرق بين هذه وتلك هذا وذاك، ويكفي إضافة حرب 94م إلى مهيجات الوضع المتأجج في الجنوب.

ما بدا انتصارا صار انهياراً، بدأ النظام حربه ضد الجميع وضد نفسه، خسر على الصعيد الأخلاقي، استمر في الحرب مضاعِفاً أوزارها، مشعلا الحرائق في كل اتجاه، تاركاً لرجال الفيد نهب الأرض والروح والقيمة، ألحق النظام بنا وبنفسه هزيمة منكرة،صار العبء والمشكلة،مصدر البلوى ومبعث الشكوى، هزمه انتصاره المتوهم حين جعل منه قيمة طاردة ونافية للجميع، مارس الإقصاء بشرعية المالك الجديد وفرض السيطرة بيقين الغالب وحده، ظل الجنوب موضوعاً خطابياً وساحة كرنفالات، تحضر فيها الوحدة ويغيب الناس، يزهو فيها الحاكم على انكسارات وطن.

فشل النظام في التعامل مع مشكلاته ومخاوفه، صنع كل هذا السخط المنفلت جنوبا وشمالا.

كان الحراك قضية انفتحت وصارت قضايا، العسكري الذي أبدى استسلاما لشرط اللحظة القاهرة وانسحب مضطرا إلى الداخل جيَّش نقمته وعاد مقاتلاً مدنياً مهدداً قاهره بأكثر مما يملك من القوة والسلاح.

الاحتجاج على إسقاط الحقوق استحال مطالبة بإسقاط النظام، كل المطالب العادلة التي قوبلت بتعامل جائر صارت اليوم دعاوى مفرطة في التشدد والمغالاة.

ربما يتحتم عليك أن تحرص على أخلاقية من يناضل ضدك كي لا تدفع بنفسك إلى مواجهة مع خصم لا يكترث.

بدأ الحراك في الجنوب مستنداً على قضايا مطلبية عادلة وبدلاً من الإصغاء والتصدي لمعالجتها ذهبت السلطة باتجاه تجريم هذا التحرك المطلبي وتخوينه والإساءة إليه ومحاولة سلبه الشرف، وهو ما أسهم في وصوله إلى هذه الحالة من التصعيد والهياج.

قد تبدو السلطة ضحية لتعاملها الفج والسطحي مع احتدام المواطنين وتصرفها الغير المسئول مع معاناتهم الواقعية الصادقة، تشهد السنوات الماضية على سلوك سلطوي بغيض مع هموم ومكابدات المتقاعدين والمسرحين قسرياً من الجيش والوظيفة العامة، استمرأ التبخيس والتهوين من شأن المطالب والمطالبين، ما كان على السلطة أن تسمح لهذه القضايا أن تبتلعها وأن تصير القشة التي تقصم ظهر الوحدة.

إن الزفرة قد تغدو إعصارا والمرض البسيط قد يتحول إلى داء فتاك ما لم تتم محاصرته،إن عدم إعطاء القضايا البسيطة ما تستحقه هو الآن ببساطة كل هذا الوضع بالغ التعقيد والصعوبة.

ما الذي قوَّى هذا الخطاب ؟ غير فشل السلطة وغير أدائها الضعيف الآثم .

هذا الجنون نتاج محاربة العقل، السلطة هي التي قوَّت هذا الخطاب المتكئ على يقين من سقوط خيارات التغيير المعتمدة،ما يقوله بصراحة المؤججون: لا جدوى من رهاناتكم على معارضة صالحة إزاء سلطة فاسدة يكفي أن تذكر السلطة لأحزاب المشترك إزاء ما يحدث أنها لا تمثل امتداداً لسوئها العميم، أحزاب المشترك في معارضتها لم تتماها مع السلطة بحيث تعكس سوءها في التعامل لأنها تعرف ما تريد، وأي درب تسلك، ولأنها تعمل من أجل هزيمة التخلف وثقافة العنف والكراهية، لأنها لا تريد إعادة إنتاج الفساد فيما تقول وتفعل لأنها صاحبة مشروع وطني كبير يتجاوز الذات والمصالح الآنية، مشروع وطن واحد يتسع للجميع ويعترف بهم شركاء غير متشاكسين.

كان حراكاً ويلوح عراكاً، وسوقا لمقامرين وعاطلين عن السياسة دفعت بهم الأحداث بعيداً، وبدلاً من معالجة المطالب دخلت السلطة كنخاس، وما لبث السوق حتى امتلئ بتجار وسماسرة وغشاشين وقطاع طرق ومستخدمين منتهيي الصلاحية، وسكان قبور، وأمراء سلطنات وشيطنات، وبدلا من التجمع والاحتشاد على فكرة الحق ثمة من يريد جعله تجمع عداء مشترك تُخفَّض معه معايير الاعتراف.

يكفي أن تكون جنوبياً خالصاً، وثمة من انتزعت أرضه فاتجه للبسط على الحراك. ما أخاف منه ان يساء لمطالب الجماهير العادلة،ان تصير آلام أهلنا في الجنوب مركب ناقمين وطلاب ثارات وعصبويين لا يفعلون شيئا أكثر من إلحاق الأذى بالناس والأضرار بمطالبهم .

إلى أين يمكن أن تقودنا هذه الدعوات المحتربة مع واقعها وتاريخها ومحيطها؟! كيف يمكن الحديث عن هوية جنوبية في ظل حراك يتشكل من هويات متصارعة تتجمع على صوت آت من الغابرين”يالتغلب”.

يخسر الحراك قضيته حين يسير باتجاه إثارة الكراهية والعداء،واستغلال مطالب المواطنين لصالح أجندات مقيتة.

ما نراه لا يبدو توجهاً باعثاً على كثير من الخشية،لا فكرة واقعية، لا رؤية لا تنظيم فعلي،ما هي إلا مهرجانات تحشيد، إعلانات وجود فاقعة، لكسر حاجز الخوف وتوسيع دائرة الاستقطاب عبر الإثارة والجلبة والضجيج.

ما نراه مجرد استعراض قدرة على التجميع وإثارة القلق،وان ما أسوأ ما يغذي هذا الصلف تعاظم الإحساس بفشل السلطة وعدم قدرتها على الفعل في مواجهة المطالب المتصاعدة لهذا تأخذ الأمور هذا المنحى المعقد،المنطلق من لحظة بحث عن حق عادل ومحاولة انتزاع اعتراف به وصولاً إلى هذا الإنكار الجائر للجميع وعدم الاعتراف بهم خارج حدود النقمة، وإن كانوا إخوة في التعب. إنه إقصاء بمشروعية الحراك.

ما نخشاه أن يسير الحراك باتجاه يغلبنا جميعاً، وينال من نضالنا في سبيل وطن حر واحد.