الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠١:٤٥ مساءً

شئ من ذاكرة الكرامة

ثريا الشيباني
السبت ، ٢٤ مارس ٢٠١٢ الساعة ٠٩:٥٠ صباحاً
نعم لم نكن هناك حينها لكن أفئدتنا كانت تهوى ذلك المكان، تقدسه، وتتوق إليه، ننشغل بالعناية بأطفالهم ونصنع لهم طعامهم وليس في ذلك أي انتقاص. ننتظر العصر بلهفة لنذهب بالتناوب، منا من تذهب ومنا من تبقى مع الأطفال، هذه كانت حالنا وحال كل أسرة تماهت بكاملها مع ثورة الأمل وأمل الثورة.

في تلك الجمعة كان أبي وكل إخوتي في الساحة، عاد أبي باكراً لأنه صلى يومها جوار فندق إيجل، وهو ليس بعيد من البيت ونحمد الله على ذلك فإقدامه سبّب لنا تالياً الكثير من القلق، أما إخوتي واثنان من أبناء عمي فكانوا متفرقين بجوار السيتي مارت، وحين قرأت خبر الاعتداء الغاشم على شاشتي سهيل والجزيرة سارعت للتواصل بهم عبر الموبايلات. في البداية رد بعضهم وأكدوا لي الخبر، ثم انقطع التواصل.

تسمرت أمام التلفاز لأتابع تزايد عدد الضحايا في كل دقيقة بل في كل نفس من تلك الساعة الدامية، وأعود للتواصل معهم لكن دون جدوى ظللت أرقب تزايد عدد الشهداء وقدماي لا تقويان على حملي مطلقاً. كان الخجل من خوفي عليهم تحديداً يقتلني في كل لحظة أقرأ فيها تزايد عدد الشهداء لكنه كان يعيد فيّ شيء لا أستطيع تسميته تماماً، كان يؤزني بحزم «الجميع يستحق الخوف والحزن».

حاولت جاهدة أن لا تعرف أمي بالخبر فكل أبنائها هناك واستخدمت كل حيلة ممكنة، لكنها علمت فأخبرتها أني قد تواصلت معهم جميعاً وهم بخير لكنهم منشغلون بالإسعافات، وشاء الله أن أصدق معها وكان جميعهم بخير ولكنهم كانوا منشغلين مع رفاقهم بفتح ذلك البيت المشئوم والقبض على القناصة وإسعاف الجرحى.

ولم يعودوا للبيت إلا الساعة الرابعة عصراً وبعضهم عاد للساحة من فوره، لكنهم جميعاً كانوا يحملون مشاهد بشعة حالت بينهم وبين النوم فترة من الزمن. ذكريات لصور لم يشاهدها والدهم الذي ناضل لسنوات من شبابه ضد الاستعمار البريطاني، بل إن إجرام نظام الاستبداد جعله يحترم الاستعمار الذي ناضل لإخراجه ويذكره بالخير في كل موقف، ويالحقارة الأنظمة العربية.

لم تحمل ذاكرة أبي ما حملته ذاكرة أخي وابن عمي مثلاً وهما يلقيان ورفاقهما القبض على أحد القناصة الذي قام بقتل سبعة من الشباب الذين شكلوا بأجسادهم سلماً بشرياًً لفتح باب بيت محافظ المحويت الذي كان وكراً للقتلة ومنطلقاً لهم، ذلك القناص على سطحه قتلهم، دون أن تهتز لتلك البسالة أي مشاعر إنسانية لديه تدفعه حتى للهرب قبل أن يتمكن رفاقهم من الوصول إليه، إذ كان يبدو على ثقة من أنه سيتمكن من القضاء على حياتهم أو على شجاعتهم، فيفرون ويتركونه محصناً وراء ذلك الباب، لكنهم صمموا على فتحه.

لم تحمل ذاكرة أبي ما حملته ذاكرتهم من غيظ وتقزز لمنظر الغداء الدسم الذي كان إلى جوار ذلك القاتل، كانت شهيته مفتوحة على القتل والأكل في اللحظات ذاتها، كما يصفون، وبما لم يمكنهم استيعابه، جرّدوه من سلاحه بعد أن جرد الوطن من ثلة من خيرة الشباب الذين خرجوا يطلبون له الحياة الكريمة.

لم تحتفظ ذاكرة أبي بما احتفظت به ذاكرة أخي وابن عمي وكثير من أهلي الذين يعملون في المستشفى الميداني بأي من تلك المناظر لشهداء وجرحى في عمر الورد، خرجوا لقاتليهم بالورد ليعودوا وقد قطف الموت بعضهم وانتزع الحقد من آخرين أجزاء من أجسادهم.

كما لن يغادر ذاكرتي يومها ما قاله لي أحدهم بثقة وهو يطمئن على إخوتي: «قولي لهم خلاص يروحوا من الساحة ما عاد باقي معاهم»!، وكأن كل الثوار خرجوا فقط ليقتل منهم خمسون شاباً ويجرح المئات ولم يبقَ لهم هدف يبقون لأجله. كدتُ أطلق كل لعناتي على الجبناء لكنني تذكرت أن المؤمن قد يكون جباناً.

اسأل من الله الذي لم يشأ أن يكون أي من أخوتي شهيداً أو جريحاً أن يرحم كل شهداء تلك الجمعة ويجعل مأواهم جنة عرضها السموات والأرض، وأن يكتب الشفاء لكل جرحى تلك الجمعة وأن يعصم بالصبر والسلوى كل من ظلت مثلي ترقب التلفاز وتنظر عودة من لم يعد يومها ولم يعد بعدها لأنه يرفل في النعيم الأبدي، ويقتص لنفسه من قاتله كل ليلة روحاً تلعنه وتنغص حياته مهما تحصن من عدالة البشر.