الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٩:٢٦ صباحاً

حراس القيم ... الإسراف الإعلامي

رائد محمد سيف
الأحد ، ١٥ ابريل ٢٠١٢ الساعة ٠٧:٤٠ صباحاً
سؤال فلسفي و مشروع كينونة يؤرق بالي منذ وقت طويل زادت وتيرته مع تخرجي بكلية الفلسفة والإلهيات / اللاهوت بالمصطلح الغربي ، وحصولي من بيروت على درجة الماجستير في مسألة وحدة الوجود قبل سنوات .. كيف يمكن أن نُسهم في تثقيف الشارع اليمني والعربي إذ يحضر السؤال حول الوعي والوجود .. الجهل والفناء .. ولماذا نبقى رهناً للأفكار الوافدة ؟! ..

الثقافة لاتزال حكراً على النخبة هذا أمر عادي قياساً بالنظر إلى أن نسبة الأمية في بلادنا مخيفة ومستوى الوعي مُرعب .. وبموازاة ذلك فإن احتكار الثقافة لا يقل خطورة عن ارتفاع نسبة الأمية ، فأمية المثقف أصعب من أمية البسطاء ..
دوماً كنت أجد أن الثقافة والثورة صنوان ، على أن المسألة كانت في معظمها افتراضية لاسيما وان انقلاب 26 سبتمبر 1962م جثم على صدورنا ، ولم نحقق شيئاً من الأهداف الستة بل حققناها بأرقام سلبية ومستويات صفرية ، وعندما قامت ثورة 11 فبراير الشبابية الشعبية السلمية من مسقط الرأس مدينة "تعز" التي رسمت في جدار الحياة لوناً جديداً وفجرت طاقات وإبداعات شباب اليمن ، ولفتت الأنظار إلى شعبنا بصورة مختلفة عن الماضي نساءًا ورجالاً وأطفالاً وشيوخاً .. أدركتُ أن الثقافة والثورة صنوان حقاً .. وتذكرت في الوقت ذاته كم هُضم الحراك الجنوبي السلمي الذي سبق الجميع ولم تمنحه الأقدار (مواطن بوعزيزي) شهير محظوظ بالموت أكثر من حظه بالحياة ولم تمنحه الأقدار قائداً واحداً مُحنكاً ..

المشكلة التي أفرزتها الثورة الشبابية اليمنية في عامها الأول ومع بلوغنا العام الثاني هو أن الثورة شبابية شعبية فعلاً لكنّ الثقافة ظلت حكراً على النخبة التي لا تستشعر مسؤوليتها .. بعضها يعيش وسط أبراج عاجية والبعض الآخر يخدم مصالح أطراف لا علاقة لها لا بالثورة ولا بالثقافة ولا بالوطن .. فكانت الانتكاسة هو أن الثورة انفصلت عن الثقافة على المستوى الشعبي وحتى النخبة لم تعش الثقافة والثورة في آن معاً بطريقة إيجابية ..

هذه إحدى الهموم الكبرى التي قرأتها من تجربة العام الماضي من الثورة ، وبعد أن قرّرتُ – شخصياً- أنّ كل قصور كان مردّه ثقافي جاءت فرصة المشروع الثقافي المؤجل فكان إشهار (المجمع الوطني للصحوة والتنوير) في 11 فبراير 2012م ، أي في الذكرى الأولى للثورة لندشن عاماً ثورياً جديداً نحاول فيه أن نكرس ثقافة ثورية لبلوغ ثورة ثقافية .. أو لنجعل من الثقافة شعبية ووطنية ، وأن لا تبقى حكراً على نُخب ضالة .. هكذا لتمضي الثقافة في خط مواز للثورة التي هي شعبية فعلاً والتي نتوقع أن تطول مديداً .. ولا شك أن "المجمع" لن يضطلع بهذه المسؤولية واحداً وحيداً ، ولكنه بمثابة إشعال شرارة يعول عليها لفت الأنظار إلى حقيقة المأزق ومكمن الخلل ليعمل الكثير ومعاً في هذا الاتجاه .. فاليد الواحدة لا تصفق ..

التجربة في بلد كاليمن ليست هيّنة ليس لأن الشباب والشارع لا يتقبل الأفكار الجديدة والمشاريع الجدّية بل لأن بعض نخبنا مع الأسف تظن أن العمل المؤسسي هو لعبة فتح دكاكين وتظن أن أحداً من النخب لا يمكنه في أحسن الأحوال إلا أن يفتح دكاناً سياسياً أو ثقافياً أو حقوقياً ويبتاع ويشتري فيه ومنه وعلى حساب شعب وثورة .. حاضر ومستقبل أمة ..

كثرت المقالات والآراء السياسية في ايامنا هذه وتسابق الكتاب والمفكرين بوضع مقالاتهم والتفنن بها ، وتناسينا اننا بحاجة الى مقالات اخلاقية واجتماعية تعيد لنا الاخلاق التى تربينا ونشنا عليها ، وهنا حبيت ان اكتب مقالتي هذه لما نعاني من تدنى اخلاقي في ايامنا المعاصرة .

حيث بين ابن خلدون في مقدمته ان الانسان بطبعه اجتماعي وبحاجة للآخرين ولا يستطيع ان يعيش بمعزل عنهم لكن تحكمه علاقات تربطه بهم. وقد كان حلم افلاطون من قبله بان يعيش في المدينة الفاضلة لكنه مات دون ان يراها. وقد توالت الحضارات تترا على وجه هذه البسيطة منها من اندثر وباد ومنها من هو باق حتى يومنا هذا. وكل حضارة كانت تحكمها منظومة من القيم الانسانية التي تنظم العلاقات البشرية بين افرادها، وقد تميزت حضارتنا الاسلامية بقيم منها العفو والتسامح وحب الاخرين، لكن يوم بعد يوم نلاحظ ان هذه العلاقات تتغير وتتبدل حتى صارت الكراهية والأنانية وصار الانتقام هو السائد ولو لأتفه الاسباب. وبدلا من الحب النقي الصافي من كل مصلحة للغير نرى ان التملق والتزلف لتحقيق مكاسب او مصالح ذاتيه هو المبدأ الذي يطغى على علاقات الكثيرين. وبدلا من البذل والعطاء ومساعدة الاخرين بات الهدف الاول هو جمع اكبر مايمكن جمعه بغض النظر عن مصدره حلالا كان ام حراما، وصارت الانانية وحب التملك هي الغاية الكبرى حتى ولو كان في ذلك عذاب الاخرين او حتى هلاكهم. كما صار التباهي بامتلاك الغالي والنفيس من ملبس وماكل ومسكن أمام من لا يملكون القليل من ذلك دون مراعاة لمشاعرهم وأحاسيسهم متعة للبعض ولذة لهم في عذاب الاخرين.

ألم نسمع او نقرا عن جيران لا يعرفون بعض أو عن ابناء حي يسكن فيه الكثيرين ويرحلون دون ان يتعارفوا او يتزاوروا، لا في فرح ولا ترح. لقد كنا نقرا ان بعض الناس في الغرب يموتون وحيدين في بيوتهم ولا يعلم ذلك الا من خلال الروائح المنبعثة بعد اسابيع. فهل يمكن ان تصبح قلوبنا قاسية الى هذه الدرجة؟ وهل يمكن ان تتجمد علاقاتنا حتى تصل ادناها؟ نعم لقد باتت العلاقات الانسانية تنحدر وبشكل خطير وتتبدل القيم وتذوب المشاعر النبيلة نحو الاخرين وتتلاشى ليحل مكانها شيء بغيض اسمه المصلحه أو الانا ومن بعدي الطوفان ...!!

ان هذا التبدل في العلاقات هو السبب الرئيس لما نراه اليوم في مجتمعاتنا من ظواهر دخيلة لم يكن أجدادنا ولا حتى آباءنا يعرفونها. فظاهرة العنف المجتمعي على مستوى العشيرة والجامعة والشارع وحتى الافراد سببه تغير اسلوب حياة الناس ونمط تفكيرهم الذي يكاد يكون ماديا بحت لدى الكثيرين ممن يحبون الظهور والسيادة وتحقيق المكاسب دون اعتبار لما سينتج من خسائر على المستوى المادي والمعنوي للآخرين. وللأسف ظهر الكثيرون من المطبلين والمزمرين من أصحاب الاقلام الذين باتوا يغذون هذه الانماط من العلاقات والسلوكيات المأزومة لدى الناس، فلم يعد هناك غير قلة قليلة ممن يكتبون عن القيم والمبادئ والأخلاق الحميدة وأثرها على المجتمع، بينما ينبري الكثيرون لكتابة التقارير الصحفية والأخبار المثيرة عن أصحاب الملايين وعما يملكونه من قصور فخمة وسيارات فارهة وعما ينفقونه على الملابس المرصعة بالجواهر وعما يقيمونه من حفلات في مشارق الارض ومغاربها وما تكلفهم من اموال طائلة.

اليس هذا اسرافاً اعلاميا ؟ يجرح مشاعر الناس وأحاسيسهم وهم يرون ان هناك من يموت جوعا لأنه لا يجد ما يأكل او مرضا لأنه لا يجد العلاج او يعيش صراعا داخليا مرا يتحول الى خارجيا لان قطار الحياة قد فأته ولم يحقق ولو بعضا من مبتغاة، فليس لديه عمل او بيت او زوجه او ..... الخ. لماذا لا يركز الاعلام على فعل الخير وعلى توطيد العلاقات وتغذية مشاعر المحبة وإبراز المبدعين في صروف العلم والأدب ومجالاته المختلفة.

اليس اسرافاً اعلاميا ما نراه على بعض المواقع الالكترونية من اخبار عن بعض الشخصيات ؟ تتم صياغتها من خلال الترصد لهم وتتبعهم ومن ثم تركيز الخبر على جوانب معينة بحيث تشوه صورهم امام الناس بينما يصنع من البعض الاخر ابطالا خارقين سواء كانوا يستحقون ذلك او لا يستحقون.

ثم اليس اسرافاً اعلاميا ما ينشر من تهويل للأمور؟ ومن تعليقات جارحة عن افراد ومؤسسات يكتبها كل من هب ودب وأحيانا بأسماء وهمية ودون أدنى تحمل للمسؤولية.

ان التوسع في هذه المواقع وما تبثه من أخبار وترك الحبل لها على الغارب قد بات فيه اساءة بالغة لعقول الناس وتفكيك للعلاقات الطيبه فيما بينهم وتشويه للصورة الناصعة النقية لإنساننا الطيب ولمجتمعنا اليمني المتماسك. ولم يعد ذلك حرية فكر وتعبير انما عنف وتدمير. فما العلاج؟

مع خالص دعائي للوطن وأبناءه وقيادته ان يديم الله علينا نعمة الحب والمودة وحسن الخلق
وهذا ما أعبر عنه دوماً بـ (الأزمة الأخلاقية) كأحد أهم وأخطر مخرجات نظام علي عبد الله صالح الأحمر ..

منذ وقت طويل نؤكد على أن القصور السياسي والفشل الإجرائي الذي صاحب يوميات الثورة اليمنية و أوصلنا إلى الوضع الراهن بكل تعقيداته وأعبائه ومخاطره المتوقعة مرده قصور ثقافي بالرغم مما أكسبت الثورة شارعها من ارتفاع نسبي في مستوى الوعي إلا أن آلة تزييف الوعي كانت قوية لأن الثورة المضادة تقف وراءها قوى عظمى .. وسنبقى نؤكد هذه الحقيقة مهما تجاهلها من نسوا الله فأنساهم أنفسهم ..

إن عقلية الاستئثار الثوري أسوأ من الاستئثار السياسي وأي تفكير من هذا النوع - وهو حاصل فعلاً - من خلال تعدد الدكاكين الثورية وعدم القبول بتوسعة فضائها ولملمة شتاتها يؤكد ما نذهب إليه من أهمية الثقافة الثورية وضرورة تعميمها لتصبح شعبية ونتخلص من ربقة هذه النخب الوصائية التي تريد لنا أن ننسى الثورة وننشغل بمتوالية هندسية من المعارضات الهزيلة ..

إيماءة ...
إن لم تفهم النخب الضالة المُضلة والمضلّلة الآن هذه الحقيقة ومن يقف وراءها فإن المستقبل هو فقط لـ (جبهة المقاومة) التي ستتشكل بلا ريب إذا ما استمر بعضهم في غيّهم يعمهون ، وهذه الجبهة نريدها عريضة لا نحيفة وواسعة لا ضيقة وممتلئة لا فارغة و شعبية لا نخبوية بقيادات شابة وخلاقة تماماً كالثورة التي انطلقت شبابية والثقافة التي نسعى لأن تصبح ملكاً للشعب .. لا حكراً على عُشّاق السفارات ، فالاستعمار ليس هيمنة سياسية واقتصادية فقط وإنما تسلط ثقافي وحضاري يهدف إلى إنتاج سدنة وعبيد لطمس الهوية والثقافة الوطنية وخلخلتها من الداخل وهذا أساس كل هيمنة أخرى .. فهل ندرك اليوم أسبقية العمل الثقافي على العمل السياسي وأهمية الثقافة الثورية لإنقاذ الثورة حتى بلوغ أهدافها ... ؟! .