الخميس ، ١٨ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٣:٢٩ صباحاً

مفهوم الدولة

محمد لطف الحميدى
الثلاثاء ، ١٧ ابريل ٢٠١٢ الساعة ٠٥:٤٠ مساءً
الدولة كانت دائماً محوراً للتحليل السياسي، بل ويراها البعض بأنها جوهر دراسة علم السياسة(1) لذلك فإن أية دراسة حول الدولة لا بد وأن تتعرض لوظائف الدولة(2) ذلك لأنه لا يمكن اعتبار الدولة هدفاً في ذاتها، بل وسيلة لتحقيق هدف يسعى إليه أعضاؤها وهدف الدولة بوصفها تجمع بشري ليس أكثر أهمية أو تقدماً بسبب كونه عاماً، بل إنه القيمة التي تضفى على نشاطها بمقارنتها بأي تجمع آخر، كالنقابة أو الحزب، لذلك فإن أي تجمع بما في ذلك الدولة يجب تقييمه على ضوء أهدافه بوصفه أداة لتحقيقها(3).

فالدولة على امتداد تاريخها وفي مختلف نماذجها تسعى لتحقيق وظائف معينة، وهذه الوظائف بغض النظر عن مضامينها تحددها عقائد وأيديولوجيات سياسية لذلك نجد تباين واختلاف هذه الوظائف من دولة إلى أخرى تبعاً لاختلاف العقائد والأيديولوجيات، بحيث يمكن القول ثمة كليات عقائدية تحدد مضمون وأبعاد هذه الوظائف وتحكم حركتها سواء في الداخل أو الخارج، فالدولة أصبحت أداة الجماعة ووسيلتها في تحقيق عقيدتها أو أيديولوجيتها السياسية وأن ذلك يمثل أساس شرعية الدولة ومبرراً لوجودها(4).

إن التقاليد الفكرية المعاصرة بشكل عام تنطلق في دراسة الدولة من الواقع الأوروبي، أي أنها تعبير عن الحضارة الأوروبية وواقعها. وعلى الرغم من كون ظاهرة الدولة هي ظاهرة عالمية، عامة، ولكن إذا أمعنا النظر في مضمون فكرة الدولة سوف نجدها تعبر عن نظام قيمي وسلوكي معين، لذلك نجد تعدد وتنوع مفهوم الدولة بوجه عام(5)، وبقدر ما تكون فكرة الدولة تعبيراً عن حضارة فإنها ستكون انعكاساً لجملة تفاعلات سياسية واقتصادية واجتماعية في مرحلة تاريخية معينة، بهذا تعددت الدراسات التي تناولت الدولة، وفي إطار وظائف الدولة نلاحظ الانتقال من الدولة "الحارس" التي تكون محددة الوظائف إلى الدولة "المتدخلة" التي يتسع نطاق وظائفها حسب الأوضاع التي تمر فيها، ثم إلى الدولة "المنتجة" التي امتد نطاق وظائفها بدرجة كبيرة حتى هيمنت وسيطرت على المجتمع، ثم بروز مفاهيم مثل دولة "الرفاه" والدولة "التسلطية"...الخ. كل ذلك يعكس تفاعلات الواقع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مرحلة تاريخية وواقع اجتماعي معين. لهذا فإن فهم هذه التسميات لا بد أن يتم في ضوء المرحلة التاريخية والواقع الاجتماعي. وبذلك يمكن القول مع (هشام الشاوي) بأن المحاولات المختلفة لتحديد غايات ووظائف الدولة تختلف اختلافاً بيناً باختلاف المنطلقات الفلسفية والأهداف العامة التي يتطلع إليها المفكرين ويصبح من الصعوبة بمكان أن تحدد بدقة غايات ووظائف الدولة في كل زمان ومكان(6).

وبقدر ما يتعلق الأمر بالدولة الإسلامية فإن القرآن والسنة تقدم مجموعة من المبادئ التي يجب أن تحكم الدولة في تعاملها الداخلي والخارجي، كما تقدم مجموعة من الغايات والأهداف التي ينبغي أن تسعى الدولة نـحو تحقيقها في حركتها وممارستها السياسية. هذه المبادئ والغايات والأهداف رغم كونها في أصولها قيماً عقائدية إسلامية إلاّ أن جوهرها ذو دلالة وطبيعة إنسانية عامة ومجردة، كما إنها مبادئ أخلاقية مطلقة(7)، فالعقيدة الإسلامية تؤكد قيم وقواعد تحكم السلوك الفردي والجماعي كما تحكم وظائف الدولة وذلك عبر قواعد تشريعية يتجاوب من خلالها المؤمن مع الدولة في أداء التزام ديني يرتبط بجوهر العقيدة الإسلامية الممثل بمبدأ التوحيد خصوصاً في أبعاده السياسية، وبذلكتصبح عقيدة التوحيد بقدر ما هي التزام فردي وجماعي التزام على الدولة وجوهر لوظائفها(8).

ويمكن القول مع (د. عبد الكريم زيدان) إن الدولة الإسلامية دولة فكرية تقوم على أساس العقيدة الإسلامية وما انبثق عنها من أحكام ونظام وبالتالي فإن أهداف هذه الدولة ووظائفها مشتقة من طبيعتها فما دامت هي دولة فكرية قامت على أساس الإسلام فمن ا لطبيعي أن تكون أهدافها هي الإسلام ذاته فلا تقف أهدافها ووظائفها عند حد توفير الأمن والطمأنينة للأفراد والمحافظة على حياتهم ورد العدوان الخارجي، بل تمتد أهدافها ووظائفها إلى تنفيذ أحكام الإسلام في جميع شؤون المجتمع وحمل دعوة الإسلام إلى العالم وأن تمكن الأفراد من عبادة الله والعيش وفق العقيدة الإسلامية وحسب المناهج التي وضعها الإسلام. وأن تزيل كل ما يناقض الإسلام وأنظمته الاجتماعية والاقتصادية(9). ونخلص للقول مما تقدم بأن ما يبرر شرعية الدولة الإسلامية هو قيامها بإنجاز وظائفها المنبثقة عن العقيدة التي تعتبر جوهر الدين الإسلامي(10).

وتأسيساً على ما تقدم يمكن أن نـحدد نوعاً من التمايز والاختلاف بين الدولة في مفهومها الغربي (أو نموذجها الغربي) والدولة في نموذجها أو مفهومها النابع من الفكر الإسلامي الذي يرتكز وينطلق أساساً من القرآن والسنة.

فالدولة في مفهومها الغربي مختلف ومتباين حسب المرحلة التاريخية التي مرت بها الدولة، أي لكل مرحلة تاريخية مفهوماً للدولة منسجم ومعبر عن قضايا مختلفة ومتنوعة تطرحها ظروف ومتغيرات كل مرحلة من هذه المراحل، وبالتالي فإن مفهوم الدولة ووظائفها يختلف من مرحلة إلى أخرى.

أما مفهوم الدولة في الفكر الإسلامي فقد تبلور حول ثوابت، القرآن والسنة، مما أعطاها التواصل وأصبح هذا المفهوم حي ومتجدد وجعل للدولة علاقة معنوية ترتفع عن التوقيت الزمني لتصبح حقيقة مطلقة لا تتقيد من حيث الزمان، وإن تقيدت من حيث إطار التعامل وحقيقة الترابط الحضاري(11). لذلك قدم الفكر السياسي الإسلامي المنطلق من القرآن والسنة رؤيا للدولة على قدر من الثبات والاستمرارية، وهنا تبدو المفارقة في النظرة إلى مفهوم الدولة بين الفكر السياسي الأوروبي والفكر السياسي الإسلامي.

إن الكتابات والدراسات السياسية التي قدمها المفكرون المسلمون تقدم نوعاً من الاجتهاد في إطار القرآن والسنة محدد في زمان ومكان معين، فهذه الكتابات عبرت عن تفاعل المفكر وفهمه للواقع السياسي في إطار القرآن والسنة التي تشكل قاعدة لقناعاته الإيمانية ولذلك لا بد من الاختلاف والتعدد في الاجتهادات في هذه الكتابات ومع ذلك يمكن أن تقسم هذه الكتابات في رؤيتها لوظائف الدولة إلى مبحثين:
المبحث الأول: الكتابات التراثية.
المبحث الثاني: الكتابات الحديثة.

المبحث الأول
وظائف الدولة في الفكر العربي الإسلامي التقليدي
بالإمكان تناول كتابات هذا الاتجاه في مطلبين:
المطلب الأول: (الكتابات التي لم تحدد وظائف الدولة)
لابد من القول أنه لا يوجد في المعاجم أو القواميس العربية الحديثة تحديد لمصطلح الدولة بشكل يعبر عن الاستخدام المعاصر لها. ولكن مضمون مفهوم الدولة معروفاً في الكتابات التراثية أما مصطلح الدولة فقد ظهر مع (ابن خلدون)، وليس كما يرى البعض بعد إعادة الاتصال والتفاعل مع الغرب(12)، فقد أدخل (ابن خلدون) كلمة "الدولة" في اللغة السياسية العربية بشكل واسع قبل أن يدخل هذا التعبير في القاموس السياسي للشعوب الأوروبية بزمن طويل(13).
إن كتابات هذا الاتجاه ركزت، بشكل عام، على الإمامة والخلافة والإمارة باعتبارها وظيفة تؤدى تحقيقاً لأهداف معينة منبثقة عن العقيدة الإسلامية فمعظم الكتابات التراثية ركزت على وظائف الدولة باعتبارها واجبات الإمام، فالقاضي (أبو يوسف) يشير إلى أن " الرعاة مؤدون إلى ربهم ما يؤدي الراعي إلى ربه" ويوضح الوظائف المنوطة بالخليفة " فأقم الحق فيما ولاك الله وقلدك ولا تزغ فتزيغ رعيتك، وإني أوصيك أمير المؤمنين بحفظ ما استحفظك الله ورعاية ما استرعاك، واحذر أن تضيع رعيتك فيستوفي ربها حقها منك ويضيعك ولا تنسى القيام بأمر من ولاك الله أمره" ثم يوضح جوهر هذه الوظائف، فيقول: " فالله جعل ولاة الأمر خلفاء في أرضه وجعل لهم نوراً يضيء للرعية ما أظلم من الأمر بينهم، وبين ما اشتبه من الحقوق عليها. وإضاءة نور ولاة الأمر إقامة للحدود، ورد الحقوق إلى أصلها للتثبيت والأمر البين وإحياء السنن التي سنها القوم الصالحون" (14).
وتربط كتابات أخرى ضرورة تنصيب الإمام أو الخليفة تأسيساً على الوظائف التي يجب أن يقوم بها. فيذهب مؤلف "العقائد النفسية" إلى "إن المسلمين لا بد لهم من إمام يقوم بتنفيذ أحكامهم، وإقامة حدودهم وسد ثغورهم، وتجهيز الجيوش، وأخذ صدقاتهم، وقهر المتغلبة وقطاع الطرق، وإقامة الجمع والأعياد، وقطع المنازعات الواقعة بين العباد، وقبول الشهادات القائمة على الحقوق، وترويج الصغار الذين لا أولياء لهم، وقسمة الغنائم"(15)، وهذا ما يذهب إليه (الشهرستاني) حيث يقول "لا بد من إمام ينفذ أحكام المسلمين ويقيم حدودهم ويحفظ بيضتهم، ويحرس حصنهم ويهيئ جيوشهم، ويراعي فيهم أمور الجمع والأعياد، وينصف المظلوم وينتصف من الظالم، وينصب القضاة والولاة في كل ناحية، ويبعث بالقراء والدعاة إلى كل ظرف"(16).
وهذا ما يذهب إليه كذلك (البغدادي) حيث يرى أن "الإمامة فرض واجب على الأمة لأجل إقامة الإمام الذي ينصب لهم القضاة وينتصف لمظلومهم، ويضبط ثغورهم، ويغزي جيوشهم ويقسم الفيء بينهم"(17).
ويبدو مما تقدم أن كتابات هذا الاتجاه عالجت وظائف الدولة باعتبارها واجبات الإمام أو الخليفة، وربما يعود ذلك إلى مركزية قيادة الدولة على امتداد التجربة التاريخية الإسلامية أو ربما لأن معظم هذه الكتابات كتبت أساساً للخلفاء أو ولاة الأمر تكليفاً منهم للعلماء بتوضيح جوانب وظيفتهم وإرشادهم أو قيام العلماء بواجبهم في نصح وتوجيه الحكام(18).
ويلاحظ أن المبرر الذي تقدمه هذه الدراسات لإقامة الخليفة أو نصب الإمام هو القيام بهذه الواجبات وتنفيذ هذه الاختصاصات، ولعل الشروط التي تشترط توفرها في الخليفة هي من قبيل الضمانات اللازمة للقيام بتلك الواجبات(19). وبصورة عامة تميزت كتابات هذا الاتجاه في تحديد مضمون الوظائف بلجوءها إلى تقديم مجموعة من الواجبات، قد تطول أو تقصر حسب كل مفكر، منوطة بالخليفة للقيام بها. فمعظم الكتابات التي تنتمي لهذا الاتجاه تؤكد ما نذهب غليه، ونشير بذلك إلى (الماوردي) في كتابه "الأحكام السلطانية والولايات الدينية" حيث يفصل الواجبات أو الوظائف إلى عشرة، وهي:
حفظ دين على أصوله المستقرة.
تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين.
حماية البيضة والذب عن الحريم.
إقامة الحدود لتصان محارم الله عن الانتهاك.
تحصن الثغور بالعدة والمنعة.
جهاد من عائد عن الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة.
جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع.
تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال.
استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال.
أن يباشر بنفسه الأمور وتصفح الأحوال لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة.
ونجد تكرار هذه الواجبات في كتاب "الأحكام السلطانية" لـ (أبو يعلى الفراء)(20).
وعلى الرغم من أن مقاصد الخلافة والخليفة على حد تعبير (الماوردي) والذي يعرفها بأنها "موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا" فإن الخليفة يقوم بالمهام الدينية والدنيوية معاً باعتباره خلفاً للنبي(r)، لذلك نجد (الماوردي) لا يفصل بين الدين والدنيا بحيث يقوم بالمهام أو الوظائف السياسية أمير مستقل ويتمتع الخليفة بسلطان ديني عام، بل إن مهام أو وظائف الخليفة هي تطبيق حقوق الله وحقوق العباد في المجتمع الإسلامي(21).
إن تحديد الواجبات أو الوظائف التي يجب أن ينهض بها الخليفة برغم كونها تعطي رؤية عامة عما يجب أن يقوم به، إلاّ أنها لا تحدد الأهمية النسبية لكل وظيفة أو واجب وهي من باب أولى لا تحدد لنا الوظيفة الأساسية الأولى في مجموعة وظائف الدولة الإسلامية، كما إنها لا تحدد الوظائف الثانوية.
المطلب الثاني: (الكتابات التي حددت وظائف الدولة)
إن كتابات هذا الاتجاه استطاعت أن تتجاوز الكثير من الانتقادات التي توجه للاتجاه السابق، إذ أنها جاءت أكثر دقة وتحديد لوظائف الدولة. ومع ذلك تلتقي مع الاتجاه الأول في كونها جعلت كذلك وظائف الدولة من واجبات واختصاصات الخليفة أو الإمام. إلاّ أن هذه الكتابات تميزت بكونها ربطت الوظائف بمفهوم "المقاصد الشرعية" ومفهوم "المصالح الشرعية"، وجاءت رؤيتها لمضمون الوظائف لتقدم نظرة شاملة حددت من خلالها أهمية كل وظيفة من وظائف الدولة ولهذا يمكن القول بأن هناك وظائف أساسية وأخرى تابعة.
ولكن في نفس الوقت جاءت كتاباتها عن الوظائف بشكل مركز ومبتعد عن التفصيلات، فلم تقدم تفسير أو تحليل لمراحل قوة الدولة أو ضعفها من ناحية عجزها أو عدم قيامها بالوظائف الأساسية. ولابد من القول بأن كتابات هذا الاتجاه شكلت تياراً مستمراً على امتداد المراحل التي مرت بها الدولة الإسلامية سواء في مرحلة ازدهارها أو انـحطاطها السياسي.
ويعد (ابن تيمية) أحد البارزين في هذا الاتجاه وذلك من خلال ربطه مفهوم الوظيفة بمفهوم "الولاية" خصوصاً في جوانبها التشريعية، ويشير (ابن تيمية) إلى أن الله تعالى خلق البشر لعبادته {وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون}، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأقوال والأفعال(22).
وتحقيق العبادة بهذا المعنى يقتضي أن يجعل الإنسان حياته وسائر أفعاله وتصرفاته وعلاقاته مع الناس وفق المناهج التي وضعتها الشريعة الإسلامية. والإنسان لا يمكن أن يحيا وفق تعاليم الإسلام وينظم علاقاته مع الآخرين وفق قواعد الشريعة إلاّ إذا كان بناء المجتمع على أسس إسلامية تمكن الفرد من هذه الحياة، وبناء المجتمع على النمط الإسلامي لا يمكن أن يتم بالوعظ والإرشاد، وإنما بقيام الدولة التي توجه المجتمع التوجه المطلوب وتشرف على سلامته بما لها من سلطان وقوة(23). وفي بيان وظائف الدولة أفرد (ابن تيمية) في كتابه "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية" باباً أسماه "الولايات" منطلقاً من الآية الكريمة { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} ويرى إن الآية حددت إجمالاً وظائف الدولة، فأوجبت أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل، وهذان جماع السياسة العادلة والسياسة الصالحة، والقيام بهذه الوظائف هو المعادل لطاعة الولاة(24). ويشير (ابن تيمية) إلى أن "المقصود الواجب بالولايات إصلاح دين الخلق الذي متى خسروه فإنهم خسروا خسراناً مبيناً ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا"(25). ويربط بين الولايات أو الوظائف والمقاصد الشرعية، حيث يرى أن الولايات أو الوظائف هي وسائل الإنجاز وتحقيق المقاصد الشرعية، فالمقصود الواجب بالولايات هي إصلاح دين الخلق وإصلاح دين الخلق هو المقصد الشرعي الأعلى. وهكذا نجده يركز على الغاية النهائية للدولة والمتمثلة في تحقيق غايات وأهداف الإسلام وتحقيق منطق العدالة في عملية الاستخلاف لتحقيق مبدأ العبودية لله وحده لا شريك له، لأن العدل يحتوي على مبدأ الذي نـحكم به على "المصلحة" فالمصلحة أمر متوهم والعدل هو ما شرع الله لنا من أحكام(26).
ونخلص للقول مما تقدم أن الوظائف عند (ابن تيمية) مرتبطة بالمقاصد الشرعية وإن المقصد الشرعي الأساسي الذي تصب فيه وتلتقي معه كافة المقاصد الأخرى هو حفظ الدين لذا فإن كل وظائف الدولة الإسلامية هي مسالك لتحقيق هذا المقصد الشرعي، وبذلك يكون الضابط لممارسة وظائف الدولة هو تحقيق "المصلحة الشرعية" والتي يكون الحكم عليها من خلال منطق العدل الذي يتمثل بالشريعة الإسلامية وربط وظائف الدولة بالمقاصد والمصالح الشرعية تعتبر طبقاً لحركة الولاية أو الوظيفة، فممارسة الوظيفة لا بد أن تكون حسب مقتضيات المصلحة الشرعية وتحقيقاً لمقاصد الشريعة.
ويذهب القاضي (عبد الجبار) ما ذهب إليه (ابن تيمية) في رؤيته لوظائف الدولة فهو يرى "إن الإمام مدفوع فيما يتصل بأمر السياسة إلى أمرين أحدهما أمر الدين، والآخر أمر الدنيا" والإمام في كل منهما يلزمه النظر على وجهين "أحدهما ما يعود بالنفع والآخر ما يدفع الضرر"(27). ويشير القاضي (عبد الجبار) إلى أن وظيفة الإمامة ذاتها وظيفة شرعية ويراد بها إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام وما شاكلها فهي تستهدف حماية الدين وتنفيذ أحكامه ولذلك فهي أداة لتحقيق العدل والموازنة بين مصالح الناس في دينهم ودنياهم(28).
وهكذا فهو يربط غايات الوظائف والولايات بتحقيق المصلحة الشرعية فالوظائف سواء كانت تتعلق بأمر الدين أو بأمر الدنيا تدور حول جلب المنافع ودفع الضرر بالوجوه المعقولة وهي لا تخرج عن حدود الشرع أي تحقيق المصلحة الشرعية ودرء المفاسد.
ويمكن اعتبار (ابن خلدون) أبرز مفكري هذا الاتجاه، إذ يقدم رؤيا شاملة ومتكاملة لمضمون وظائف الدولة، ذلك لأن شرعية الدولة واستحقاقها الطاعة والولاء لديه أمر يرتبط بقيامها بالوظائف وممارستها من أجل الوصول إلى المقاصد وتحقيقاً للغاية النهائية من وراء ممارستها لتلك الوظائف.
وقد استخدم (ابن خلدون) مفهوم "الخطط" للتعبير عن مفهوم الوظائف وهي عنده نوعان "الخطط الخلافية" و"الخطط السلطانية"، وقسم أنواع الحكم انطلاقاً من الوظيفة التي تقصدها الحكومة إلى ثلاث أنواع وذلك حسب المقصد المرتبط بكل وظيفة والمصلحة التي تحققها وهي:
الملك طبيعي ومقصده الأساس "حمل الناس على مقتضى الغرض والشهوة".
الملك الذي يقوم على "حمل العامة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار"
الملك الشرعي وهو "حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها... فهي خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين، وسياسة الدنيا به"(29).
وفي "الخطط الخلافية" التي تعبر عن وظائف الخلافة الراشدة يرى أن الخلافة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الأمة، وصاحب الأمر منصرف في الأمرين: أما في الدين فبمقتضى التكاليف الشرعية التي هو مأمور بتبليغها وحمل الناس عليها، وأما سياسة الدنيا فبمقتضى رعايتهم في العمران البشري الذي هو ضروري للبشر(30).
ويفصل (ابن خلدون) في الواجبات أو الوظائف التي تدخل في نطاق "حفظ الدين" من الصلاة والفتيا والجهاد والحسبة التي تندرج تحت واجبات أو وظائف الخلافة لأنها الأصل الجامع، وتصريفها في سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية وتنفيذ أحكام الشرع على العموم(31). أما الأمر الثاني الذي يدخل في سياسة الأمة وهي "الخطط الملوكية السلطانية" التي تقتضيها طبيعة العمران كالوزارة والحجابة والجباية وولاية الثغور وغيرها وهي عنده مندرجة تحت الخلافة لاشتمال منصب الخلافة على الدين والدنيا وذلك لتعلق الفعل الشرعي بجميع أفعال العباد(32).
ومما تقدم يبدو أن هذا الاتجاه قدم مضموناً واضحاً لمفهوم وظائف الدولة خصوصاً عندما ربط بين مضمون فكرة "الولاية" أو "الخطط" من ناحية وبين مفهوم الوظيفة بحيث اعتبرت الوظيفة "ولاية" أو "خطة" في نفس الوقت كما هو الحال عند (ابن خلدون) و(ابن تيمية)، ومع ذلك نجد أن كتابات هذا الاتجاه فصلت بين الوظيفة الدينية والتي تتعلق بأمر الدين ووظيفة سياسية تتعلق بسياسة الدنيا.

المبحث الثاني
وظائف الدولة في الفكر السياسي العربي الإسلامي الحديث
إن ما يميز الكتابات الحديثة التي تناولت وظائف الدولة الإسلامية كونها قدمت النظام السياسي الإسلامي والحكومة الإسلامية باعتبارها مرادفات لمفهوم الدولة الإسلامية(33). بل أكثر من ذلك إن العديد من هذه الكتابات أسقطت الرؤية الأوروبية لمفهوم الدولة القومية على مفهوم الدولة الإسلامية، فتحدثت عن الشخصية المعنوية المستقلة للدولة، وأركانها المعروفة في الفقه الفرنسي، وحاولت أن تجد مشابهات لها في الفكر السياسي الإسلامي. وربما يعود كل ذلك إلى كون هذه الكتابات جاءت كرد فعل لكتابات تنكر الجوانب السياسية في الإسلام، وبالتالي فإن هذه الكتابات اتسمت بالطابع الدفاعي وحاولت إيجاد بل على الأقل اختلاق متشابهات لما يطرحه الفكر السياسي الأوروبي وراحت هذه الكتابات تتوسع بحثاً ونقاشاً حول قضية الإسلام هل هو دين فقط أم دين ودولة لتصل إلى نتيجة مفادها أن الإسلام كما هو دين هو دولة أيضاً(34).
علاوة على ما تقدم فإن البعض من هذه الكتابات خلطت بين مفهوم الوظيفة والأدوات أو الوسائل، فتحدث عن وظائف ثلاث للدولة الإسلامية، تشريعية وتنفيذية وقضائية. فالتشريع والتنفيذ والقضاء هي وسائل لتحقيق وظيفة أشمل هي ليست وظيفة النظام السياسي وإنما أشمل منه وظيفة الدولة التي تسعى إلى حماية وتطبيق نظام قيمي معين وإنجازه في واقع(35).
فنجد على سبيل المثال (د.سليمان محمد الطماوي) يذهب إلى القول بصدد السلطات الثلاثة "إننا نريد أن نعرض للمفاهيم الأساسية لهذه السلطات في الفكر السياسي الإسلامي، إننا نسلم بأن الاصطلاحات العصرية في هذا الخصوص غريبة على نظام سياسي بدأ تطبيقه منذ أربعة عشر قرناً، ولكن الحقيقة المسلم بها إن الدولة العربية الأولى قد عرفت ثلاث وظائف متميزة هي التشريع والتنفيذ والقضاء، وفقاً لمبادئ أصولية متميزة"(36).
وإذا كانت هذه الكتابات قد أسقطت المفاهيم الغربية للدولة على مفهوم الدولة في الإسلام فتحدثت عن سلطات ثلاث أو وظائف ثلاث للدولة الإسلامية فإن البعض من هذه الكتابات حاولت أن تبين بأن الدولة الإسلامية تأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات(37).
ومما يلاحظ في كتابات هذا الاتجاه أيضاً تشديدها على الفصل بين الوظائف الدينية والوظائف السياسية، بحيث يمكن القول أن الفصل بين الوظائف الدينية والوظائف السياسية في رؤية وظائف الدولة الإسلامية هي سمة الكثير من الكتابات الحديثة. وفي نظرنا إن هذا الفصل يخفي مقولة فصل الدين عن الدولة في صورها التي تقوم فيها الدولة بحماية الدين ولكن كشكل منفصل عن الأمور السياسية.
وتعد دراسة الأستاذ (السنهوري) عن الخلافة مثالاً لهذه الكتابات، حيث ينطلق من تحديد (الماوردي) للوظائف إلاّ أنه يطلق عليها صلاحيات ولاية الحكومة، ويرى أنها تنقسم إلى قسمين: صلاحيات دينية وصلاحيات سياسية. ويوضح (السنهوري) هذه الاختصاصات المنوطة بالخليفة، فالاختصاصات الدينية تشمل حماية العقيدة، الجهاد والزكاة والصلاة والصوم والحج(38).
أما الاختصاصات السياسية فيرى إنها ذات طبيعة مرنة ومتطورة تبعاً لتطور الظروف إذ أنها تقع في إطار الجزء الدنيوي من أحكام الفقه، وهذه الاختصاصات تتعلق بإقامة العدل بين الناس، والأمن والدفاع عن الحدود والشؤون المالية وتعيين الولاة والعمال وشؤون الأفراد(39).
ولا بد من الإشارة إلى أن معظم الذين ذهبوا إلى فصل ما هو ديني عن ما هو سياسي كانوا يحاولون دفع التهمة عن النظام السياسي الإسلامي والذي عدوه مرادفاً ثيوقراطي، وهذا ما نلمسه واضحاً لدى (السنهوري) فإن هدفه من هذا التقسيم للوظائف هو نفي وجود سلطة دينية للخليفة كما هو الحال لدى الكاثوليكية المسيحية، فالخليفة يمارس صلاحيات دينية، ولكن ليس له سلطة دينية تماثل السلطات التي يمارسها البابا، فهو لا يملك حق الغفران، ولا سلطة الإبعاد من الدين ولا يتلقى الاعترافات، ولا يعطي البركات، كما أن الخليفة لا يتمتع بصفة القداسة ولا حق له في الإفتاء في أمور الدين إلاّ إذا كان مجتهداً وليس له من سلطة لغرض تطبيق اجتهاده فقط(40). لقد سبق للشيخ (محمد عبده) أن أوضح بأنه لا توجد في الإسلام سلطة دينية لذلك تبدو رؤيته ذات دلالة في هذا الصدد إذ يقول " ليس في الإسلام سلطة دينية، سوى سلطة الموعظة الحسنة" وعنده أصل من أصول الإسلام... قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها " فليس في الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه... ولم يعرف المسلمون في عصر من العصور تلك السلطة الدينية التي كانت للبابا عند الأمم المسيحية"(41).
ولكن رغم محاولات الفصل بين الوظائف الدينية والوظائف السياسية إلاّ أن الفكر السياسي الإسلامي لا يعرف الفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي ذلك لأن الخط الفاصل بين الديني والسياسي هو التمييز بين حقوق الله وحقوق العباد وهذا لا يعني أن الاختصاصات السياسية هي خارج نطاق ما هو ديني، لأن نطاق الشريعة الإسلامية يشملها وإن كانت ضمن دائرة الاجتهاد، ولهذا فإن الاختصاصات السياسية تكون مشمولة بالدينية ولا تنفصل عنها.
وهناك العديد من الكتابات ضمن هذا الاتجاه حاولت أن تقدم رؤية لوظائف الدولة الإسلامية انطلاقاً من العقيدة الإسلامية، على اعتبار أن الدولة الإسلامية في جوهرها تعبر عن تلك العقيدة وهي بذلك تكون أداة وسيلة لتحقيق هذه العقيدة وتبرر في هذا المجال محاولات جادة عديدة منها محاولة الدكتور (عبد القادر عودة) في كتابه "الإسلام وأوضاعنا السياسية" والتي ينطلق فيها من مفهوم "الاستخلاف"(42)، ومن هذه المحاولات محاولة (سيد قطب) من خلال طرحه لمفهوم "الحاكمية" والذي يبدو أنه أخذه من (أبو الأعلى المودودي) وطوره(43).
يطرح (سيد قطب) مفهوم "الحاكمية" ويربطه بمفهوم الوظيفة، حيث يرى أن كل دين هو منهج حياة لذلك لابد وأن يتمثل في نظام واقعي يعيش به وفي إطاره الناس وبالتالي فإن الدولة جزء من الدين من أجل إقامة منهجه في واقع عملي. وهذا المنهج يعبر عنه (سيد قطب) بمفهوم "الحاكمية" الذي يشكل المحور الأساس في رؤيته، ويعني به رد كل شيء لله تعالى بحيث تؤسس الحياة في كافة جوانبها على قاعدة عبادة الله الواحد. بكلمة أخرى يهدف (سيد قطب) إلى إقامة التوحيد في الحياة، وهذا هو مضمون ما يسميه "توحيد الألوهية" وهي الوظيفة الأولى والأساسية للدولة أما الوظائف الأخرى والمتعلقة بسياسة الدنيا فهي وظائف تابعة بل ومشمولة بوظيفة إقامة الدين(44).
وقد أشرنا إلى أن (أبو الأعلى المودودي) كان قد سبق (سيد قطب) في طرحه لمفهوم الحاكمية وله أيضاً تصوره لوظائف الدولة. ينطلق (المودودي) في تحديد وظائف الدولة الإسلامية من رفضه لمفهوم الدولة في الفكر الغربي، فالدولة الإسلامية ليست مهمتها تنفيذ واجبات الشرطة المتمثلة بإقرار النظام وحفظ الحدود وإنما هي ذات هدف وغاية(45). ويرى (المودودي) أن الدولة في مفهومها الغربي يعبر عن مرحلة من مراحل تطور مفهوم الدولة في الحضارة الغربية والذي كان عملها يقوم على رعاية وصيانة الحرية الشخصية للأفراد ومنعهم من التدخل في حرية بعضهم البعض وحماية الأرواح والأموال، والحفاظ على الأمن والنظام وحماية حدود الدولة من الهجوم الخارجي. ويرى الآن " قد تحطمت اختصاصات الحكومة في كل مكان، وظللت الحياة الاجتماعية كلها"(46).
لذلك يقدم (المودودي) مفهوماً للدولة يربط فيه بين الدولة والعقيدة، فالدولة هي قوة سياسية والواجب عليها إقامة الدين وتنفيذ الشريعة، أي تحويل العقيدة إلى منهج حياة وواقع عملي. ويرى أن واجب الحكومة الإسلامية إقامة الدين في دائرة سلطتها وتجتهد في عرض رسالة الإسلام على الأمم الأخرى(47).
ويحدد الأهداف التي تعمل لها الدولة الإسلامية، فهذه الدولة يجب أن تعمل لغايتين كبيرتين الأولى إقامة العدل في حياة البشر والقضاء على الظلم والجور، والثانية إقامة نظام الدين "إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وذلك عن طريق ما تملكه الحكومة من طاقات ووسائل، وهو النظام الذي يشكل حجر الزاوية في الحياة الإسلامية، وأن تنشر الخير والبر، وتأمر بالمعروف وهو الغرض الأصلي من مجيء الإسلام إلى الدنيا وأن تقطع دابر الشر"(48).
وبناء على ذلك يحدد (المودودي) وظائف الدولة الإسلامية الكفيلة بتحقيق تلك الأهداف وهي أن تقيم الحياة الإسلامية دون نقص أو إبدال، وأن ترفع من قدر الخير وتقضي على الشر وتزيله، طبقاً لمعيار الإسلام. أي أن تقيم نظام الدين كاملاً ويكون ذلك بأن تأخذ الدولة على عاتقها إقامة نظام المجتمع، وإقامة هذا النظام يحتاج لهذه القوة المسيطرة والتي لا بد أن تنادي بنظرية فكرية وترسم خطاً اجتماعياً فهي تهدف إلى إقامة القانون الإلهي، وتحقق العدل وتنشر الخير من ناحية، ومن ناحية أخرى تبلغ العباد الشرع الذي بعث على يد الرسل.
نخلص من كل ما تقدم إلى أن الفكر السياسي العربي الإسلامي في تحديده لوظائف الدولة الإسلامية يرى أن الوظائف هي الغايات التي تسعى الدولة إليها والأهداف التي تأمل تحقيقها من وراء حركتها، وهذه الأهداف والغايات تحددها القيم الأساسية الإسلامية. فالوظائف في مدلولها الإسلامي هي قيماً وممارسة هادفة لتحقيقها. وهذه القيم في الفكر السياسي الإسلامي تتمركز في قيمة محورية أساسية هي "التوحيد" فهو الجوهر الأساسي الذي يقوم عليه الإسلام، وذلك بقدر ما يعتمد وحدانية الله(49). وإذا كان التوحيد جوهر الإسلام الذي يقوم عليه فإنه بذلك يكون جوهر وظائف الدولة الإسلامية.
فالدين الإسلامي جاء ليؤكد مبدأًً أساسياً ابتعد عنه المجتمع في جاهليته، ألا وهو مبدأ "التوحيد"، فبعث الرسول(r) كي يدعو المجتمع إلى ترك الألهة المتعددة والتوجه لعبادة الله الواحد الأحد، ودعوة الرسول (r) هذه تضمنت أن يخضع البشر للشريعة " قرآن وسنة" التي يأمر بها الله. وبذلك تكون وظيفة الدولة الأساسية هي تطبيق الشرعية الإسلامية ومدى تكاملها وترابطها، لأن تطبيق هذه القيمة "التوحيد" هي هدف الدولة الأساسي بقدر ما يكون القيمة العليا التي تسعى الدولة لإقامتها وهو بذلك يشكل القيمة الجوهرية لكل وظيفة. والدولة الإسلامية في حركتها لتحقيق وظائفها في الواقع العملي إنما تسعى لتحقيق مقاصد الشريعة، لذلك فإن مقاصد الشريعة في الأخير تشكل أهداف وغايات الدولة الإسلامية، والتي يحددها المنطق الكلي للرسالة الإسلامية والتي تدور حول تحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة، ولا يتم ذلك إلاّ بإتباع ما أنزل الله.
لذلك نجد أن الفكر الإسلامي في كل اتجاهاته وفي مختلف مراحله جعل تطبيق الشريعة الإسلامية هو الهدف الأول لوظائف الدولة وبذلك يمكن القول مع (رضوان السيد) لقد رأى فقهاء السياسية في الإسلام، في قرونه الأولى، أن الشريعة هي نهج لسياسة الدنيا أو السلوك فيها والتعامل مع ظروفها وتقلباتها. فالشريعة هي المقياس والمراجع في أمور العبادة وأمور السلوك الدنيوي، لذلك فإن الدولة الشرعية كان يتم محاكمتها على أساس العودة للشريعة باعتبارها الأساس والمراجع(50).
وتبعاً لذلك فإن وظائف الدولة تتمركز في إقامة الشريعة الإسلامية ونفاذ أحكامها في المجتمع الإسلامي.