الاربعاء ، ٢٤ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٦:٥٥ صباحاً

شعوب في السماء وشعوب في الحضيض

عبدالعزيز المقالح
السبت ، ٢٨ ابريل ٢٠١٢ الساعة ٠٧:٥٠ مساءً
من المؤكد أن الشعوب التي في السماء لم تصل إلى هناك بضربة حظ، ولا بدعاء الأولياء والصالحين، وإنما بجهد أبنائها وجهادهم وباتفاقهم -رغم الخلاقات الحادة حيناً والهادئة أحياناً- على قاسم مشترك للنهوض والارتقاء. كما أن الشعوب التي في الحضيض لم تصل إلى ذلك الوضع المحزن بسبب لعنة تاريخية حاقت بها أو خطيئة ارتكبتها، أو بسبب الاستثناء التاريخي العربي الذي يقول به الاستشراق الاستعماري، وإنما بالعجز الذي استولى على أبنائها أولاً، وبالرضوخ والتكيف مع حالة الاستبداد التاريخي، ثانياً، ثم بالعوامل والمؤثرات الخارجية ثالثاً. وبين الشعوب التي في السماء والتي في الحضيض مسافات صنعها في الحالة الأولى الوعي والشعور بالمسئولية، والإرادة في التغيير، وصنعها في الحالة الثانية غياب الرؤية الواعية وانعدام الإحساس بالآدمية، فضلاً عن تراكم رصيد من الخلافات التي تبدو غير قابلة للتسوية أو حتى للنقاش الموضوعي الذي من شأنه أن يجعلها تبدو على حقيقتها بوصفها خلافات لا معنى لها، أو على الأقل أنها خلافات تحول دون العمل المشترك والخروج بالشعوب إياها من الحضيض الذي تردت فيه.

ولا اتذكر اسم الرئيس الفرنسي الذي لم يتردد عن إبداء تخوفه من حكم شعب يأكل أبناؤه سبعة وتسعين نوعاً من الجبنة، وربما لم يخطر على ذهنه أن كثيراً من شعوب العالم الثالث لا تعرف لوناً واحداً من ألوان الجبنة التي يتحدث عنها، فضلاً عن أكلها، وأن غالبية حكام هذه الشعوب لا يخافون من حكمها ولا يترددون عن إبداء الرغبة في أن يستمروا حاكمين لها مدى الحياة، لأن شعوب الحضيض لا تفكر بأكثر من الرغيف المغموس بالعرق وبالإذلال، وأحياناً بالدم. الحاكم الفرنسي يخاف لو اختفى نوع واحد من أنواع الجبنة التي اعتاد عليها شعبه، أما الحاكم في العالم الثالث فلا يدركه الخوف من شيء، حتى لو اختفى الماء والهواء، وهي شجاعة تحسب له ولا تحسب لشعبه المستكين الذليل. وكم جاهد كتّابٌ ومفكرون من هذه الشعوب في أن يقولوا لحكامهم: حاولوا الاستفادة من قبول شعوبكم بالحد الأدنى من المعيشة في إقامة مشاريع إيجابية تساعد على توفير الرغيف والماء والكهرباء مع قدر ولو طفيف من العدل والكرامة والأمان، لكن أقوالهم تلك ذهبت أدراج الرياح.

ولا أظن أن أحداً في هذا الكون يشكك في أن شعوب العالم الثالث تتألف من بشر لهم لحم ودم وأحاسيس، وليسوا قطيعاً من الأغنام أو صخوراً من الجماد، لكن الخوف من الحرية، طوعهم ليكونوا مختلفين عن بقية البشر، بخضوعهم واستسلامهم للأمر الواقع، وكانوا إذا ما تحركت فيهم نزعة البشر وأطلقوا العنان للتعبير عن مشاعرهم تجاه ما يعانونه من إهمال وإذلال تكاثر عليهم الخطافون والمنتفعون، وعادوا بهم إلى الحضيض نفسه بعد أن يكونوا قد تمكنوا من إفراغ شحنة الغضب ببعض الإجراءات السطحية التي لا تمس الجذور، ولا تصل إلى أعماق المشكلات. وهكذا تعود شعوب الحضيض إلى مربعاتها الأولى. وتذكرني حكاية الربيع العربي الأخير الذي لم يزهر بعد ولم يؤت ثماره بربيع الثورات العربية في الخمسينيات والستينيات، وكيف تم إفراغها بعد سنوات من محتوياتها الشعبية والإنسانية، فتحولت من مشاريع للنهوض والتطور إلى مفاتيح صراعات على السلطة والاستئثار بالنفوذ.

والصورة الآن في بعض شعوب العالم الثالث لا تبعث كثيراً على الأمل، فقد كانت هذه الشعوب إذا ما استغاثت أجابتها الثورات، لكن ما العمل إذا كانت الثورات هي التي تستغيث؟ سؤال سيكون من الصعب إن لم يكن من المستحيل الإجابة عنه، ولكن بين الشعوب التي في السماء والشعوب التي في الحضيض يتدلى حلم شباب حُر ثائر يحزنه، بل يعذبه أن تكون البلدان التي تعيش عليها فاقدة لأبسط معاني الحرية والكرامة، وأنها بجهلها وحماقاتها تسعى إلى أن تضيف المزيد من الأسباب التي تجعلها تبيع أحلامها وأنين أيامها للغبار القادم من الصحراء، وبكثرة لم تعهدها العيون من قبل. ومن خلال ذلك الأمل المتوهج في أحداق شباب الثورة العربية الجديدة يمكن لشعوب الحضيض أن تتدرج في الارتقاء إلى أن تصل إلى السماء، ولتكن مؤقتاً السماء الدنيا إذا لم تكن السماء السابعة.

تأملات شعرية:

تقول الشعوب وقد خرجت

من حظائرها المعتمات:

أنقذوني!

أنقذوا ما تبقى من الضوء في مقلتي

وأنقذوا روح أمتكم

قبل أن تشتوي في الظلام!

وتقول الشعوب:

إلى كم أظل أنادي..

ولا من مجيبٍ

وقد أفرغ الخوف

ما في فمي من نزيف الكلام!