الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٦:٤٠ مساءً

حتى يكون لخطابات هادي معنى

نصر طه مصطفى
الاربعاء ، ٠٩ مايو ٢٠١٢ الساعة ١٠:٥٠ صباحاً
في خطابه الثاني منذ انتخابه رئيساً للجمهورية اليمنية قبل سبعين يوماً، كان الرئيس عبد ربه منصور هادي صريحاً وواضحاً، بالقدر المعقول الذي استطاع من خلاله توصيل رسائله للمعنيين في مختلف أجهزة الدولة المدنية والعسكرية. ولأنه مقل في خطاباته، فقد كان اليمنيون ينتظرون خطابه هذا بالكثير من الاهتمام، ليسمعوا رأي رئيسهم الجديد في الكثير من مجريات الأحداث التي جرت خلال السبعين يوماً الماضية.

وفي ما مضى لم يكن يمر أسبوع واحد في عهد الرئيس السابق علي عبد الله صالح، إلا وله خطاب واحد على الأقل تتكرر فيه ذات المعاني دون أن يتبعها تنفيذ، حتى أصبحت خطاباته بلا معنى إلا القليل منها، حيث كان يحاول من خلال هذا القليل أن يقدم مكاشفات مهمة لا يستطيع تنفيذها لاحقاً، نتيجة تصادمها مع مصالحه ومصالح المقربين منه، فتصبح بالتالي جزءاً من أرشيفه الخطابي لا أكثر..

ففي عام 1999 عندما تقدم بترشيحه لمجلس النواب في أول انتخابات رئاسية مباشرة، قال إنه سيواجه الفوضى التي تسود الحياة العامة، لكن ما حدث بعدها أن مساحة الفوضى اتسعت أكثر وأكثر.. وفي خطابات كثيرة لاحقة، كان يتحدث عن ضرورة محاربة الفساد ومخاطره على الوضع، لكن ما كان يحدث بعدها هو أن مساحة الفساد كانت تزداد أكثر..

وفي خطابات أخرى أكثر من السابقة، ظل يقنعنا بأنه بنى الجيش على أسس وطنية، واتضح فيما بعد أن هذه الأسس هي أسس مناطقية لا أكثر، وبالذات في القوة الرئيسية التي ظل يبنيها بعناية بالغة وهي الحرس الجمهوري، وهو أمر أخذ يتكشف الآن بصورة تبعث على الخجل، حيث يرفض تعيين قائد جديد للواء الثالث لمجرد أنه من مديرية أخرى غير مديريته..

وفي خطاب مهم ألقاه في جامعة عدن عقب «خليجي عشرين»، عرض تقييمه لمسارات التاريخ اليمني الحديث، محاولاً تقديم خطاب توافقي. لكن ما حدث بعد ذلك هو أن رئيس كتلته البرلمانية، أعلن عن اقتلاع عداد الرئاسة عبر تعديلات دستورية مرتقبة، فأشعل ثورة شعبية ضد رئيسه..

وعقب انطلاق الثورة الشبابية الشعبية السلمية، ألقى صالح خطاباً مهماً في ملعب الثورة الرياضي (10 مارس 2011)، طرح فيه تعديلات دستورية وأعلن إجراء انتخابات رئاسية مبكرة قبل نهاية العام ذاته، وبدلاً من المضي الجاد في إنجاز تلك التعديلات، جرى الإعداد المتقن لأبشع مجزرة طالت مدنيين بعد ذلك الخطاب بثمانية أيام فقط، في جمعة الكرامة، وهي التي أسقطت شرعية حكمه للأبد وكانت سبباً في خروجه من السلطة.

لا نريد لوعود الرئيس الجديد التي يطلقها في خطاباته أن تواجه ذات المصير، وما بين خطابه الذي ألقاه السبت الماضي 5 مايو وخطابه القادم الذي سيلقيه بالتأكيد عشية العيد الوطني الثاني والعشرين لقيام الجمهورية اليمنية، والذي يصادف 22 مايو الجاري، لا بد أن يكون الرئيس هادي قد أوفى ببعض ما ورد في خطاب السبت الماضي، مما يمكن إنجازه خلال الأسبوعين القادمين، وفي مقدمتها ما يمكنه هو بشكل شخصي أن يكون له الدور الأساسي في إنجازه، مثل الإشراف المباشر على التقريب بين الطرفين الموقعين على المبادرة الخليجية، والإشراف المباشر على تنفيذ ملاحظاته التي وضعها في خطابه حول أداء الإعلام الرسمي، وأن يكون قد قطع شوطاً جديداً في خطوات إنهاء الانقسام في الجيش.

وإعادة تشكيل قياداته على أسس وطنية، وكذلك إعادة تشكيل قيادات الأجهزة الأمنية بأسس وطنية، بعيداً عن حصرها في الأقارب والأصهار، والتي ستكون مهمتها الأساسية - أي الأجهزة الأمنية - حماية السلطة والمجتمع، بحسب ما جاء في خطابه الأخير الذي أوصل من خلاله رسالة واضحة لسلفه، نقض فيها أطروحاته الدائمة التي ظل يسوقها خلال السنوات الماضية، بأن مهمة الجيش هي حماية الشرعية الدستورية، فيما أكد الرئيس هادي في خطابه الأخير أن مهمة الجيش تتمثل في حماية السيادة، وهو الأمر المتعارف عليه في العالم كله.

وهذا معناه أن الرئيس هادي سيتجه لإعادة بناء القوات المسلحة بما يتفق مع هذه الوظيفة، وهذا سيؤدي بالتأكيد إلى إخراج معسكرات الجيش من المدن، وهي مهمة ستأخذ وقتاً غير قليل، لكنها أصبحت مطلباً شعبياً لا خلاف عليه، بعدما أحس المواطنون خلال الثورة الشعبية بكارثية وجود معسكرات الجيش في المدن، حتى أصبحت مدن مثل صنعاء في حالة حصار فعلي من قوات عائلة صالح، وحتى هذه اللحظة، مما ذكر سكانها بالحصار الذي عانوا منه لمدة سبعين يوماً أواخر عام 1967 وأوائل عام 1968، من القوات الملكية أثناء الحرب الأهلية!

وقد تحدث الرئيس الجديد في خطابه الأخير عن استعادة هيبة الدولة كأولوية قصوى، وهي الأولوية التي سيمثل إنجازها المفتاح الحقيقي لكل أبواب الخير والأمن والاستقرار والنجاحات المأمولة في قادم الأيام.. فقد كان غياب هيبة الدولة هو المرض العضال الذي أصاب اليمن في سنواته الخمس عشرة الأخيرة، وأطاح في النهاية بحكم الرئيس علي عبد الله صالح. فالأنظمة التي تفرط في هيبة الدولة وسيادة القانون وتفضل عليها إدارة الأمور بالفوضى والفساد، إنما تكتب نهايتها بيديها، بل إنها تخرج مكللة بالعار لأنها تجد نفسها في لحظة الحقيقة أمام خيارات كل واحد منها أصعب من الآخر.

وها هو صالح، رغم تسليمه السلطة، ما زال يحاول التشبث بأي قشة منها، فتارة يعيق تسليم القوات الجوية، وتارة يعيق تسليم اللواء الثالث، وغداً سيعيق تسليم الأمن المركزي وهكذا.. لأنه أنشأ كل تلك القوى الأمنية والعسكرية لحمايته، لكنه اكتشف في الأخير أنه لا يوجد بين جميع خياراته الصعبة خيار واحد يمكن أن يضمن له الاستمرار في السلطة أو العودة إليها أو تسليمها لأي من أقاربه، فكل هذه الخيارات ينتهي جدواها عندما تجد نفسك مرفوضاً داخلياً وخارجياً على السواء، إذ ما الذي ستفعله بالسلطة وبكل تلك القوة الضخمة العسكرية والأمنية في حالة كهذه؟!

لذلك سيكون على الرئيس هادي أن يضع خارطة طريق واضحة ومعلنة لاستعادة هيبة الدولة وسيادة القانون، وإلا فإن خطابه هذا سيتحول إلى خطاب أرشيفي لن يجعل لخطاباته القادمة قيمة تذكر، ما لم تكن هناك عقب كل خطاب، إجراءات تحوله إلى خطة عمل وبرنامج قابل للتنفيذ.