الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ١٠:٢١ صباحاً

تفكك الديموقراطية الليبرالية

أمين غانم
الجمعة ، ١٨ مايو ٢٠١٢ الساعة ١١:٤٢ صباحاً
إن إنجاز العملية الإنتخابية اليمنية في 21 فبراير ( شباط ) بصيغته التوافقية او بتعبير أدق بصيغة (المبايعة ) ،في ظل الكثير من التناقضات الإجتماعية ( الوطنية والقومية ) ،يشكل محاولة متواضعة للخروج من وسط الكارثة .

بيد أن تلك المحاولة هي في الأصل خروجا عن القواعد الأساسية الحاملة لنظام الدولة ولإستقراره ،بالركون لتوافق سياسي هش يخلو من القراءة الموضوعية لمرحلة ( مابعد المبايعة ) .فالمشهد الإجتماعي يعاني من صدوع عميقة ،والتي ماتفتأ تتوزع وتزحف لتلتهم المواطن الإجتماعية الثابتة (نوعا ما ) ،والراضية عن صيغة المعالجة والتوافق .

فالقضية لم تعد رهنا لمبررات الخروج من قبضة الإنهيار بقدر ما تكن معرفة جوهرية بكنهه الوطني والتاريخي .وكلنا يدرك هشاشة الحل وكارثية اللاحل ،سيما وقد ذابت الفوارق المنطقية بينمها ، وباتت في حكم العجز الكلي المميز لكلتا الحالتين .

إذا نحن امام قراءة اوسع ،فالدولة اليمنية وبقية دول الربيع العربي قد فقدت مقومات ثلاثة من مقومات ثبات الدولة:

1- العنصر الثقافي والمعرفي .

2-العنصر الإقتصادي .

3-العنصر الديمقراطي ( كآلية توازن حاكمة للسلطة والشعب ).

تلك العناصر أساسية في تكوين سلطة الدولة بمحدداته الأخلاقية .

فالدولة الآن تسير فقط بثلاثة عناصر :

- العنصر العسكري .

- العنصر السياسي .

- العنصر الإعلامي .

والعناصر الثلاثة ليست بكامل قوتها ،خصوصا العامل الثاني والثالث واللذان يتعرضان للتغيير والتبديل حتى فقدا المهمة الإستراتيجة للحفاظ على الشخصية الإعتبارية لسلطة الحكم والقانون .أما العنصر الأول المتمثل بالجيش فلم يكن متماسكا بعنصره البشري وبعتاده وآلته العسكرية وبكامل جاهزيته .

كل ذلك يلخص حالة الدولة اليمنية والعربية ،التي تحاول النهوض للمضي بعيدا عن ضربات التنين الجريح (الليبرالية المنفلته من القالب الديمقراطي ) ،الذي افقد الدولة المكونات الخمسة ،ولم يبق لها غير مكون واحد ونفس آخير للتشبث بالبقاء ( الجيش ) .

فلو خرجنا بعيدا عن المشهد السياسي ،لنتعمق في فلسفة الليبرالية نفسها ،فهي الآن تتصاعد حتى تبلغ الذروة في تغيير المشهد .حالة الجموح التاريخي لها في كسر السائد بكل منظوماته ومحدداته السياسية والإقتصادية ،أي انها تخلت عن تمركزها حول حرية الفرد والمجتمع ،بل انطلقت بعيدا ،بحرية فضفاضة فاقدة للوعي الضروري والكافي لإحتواء تدفقها،الكفيل بإعادة حركتها المفرطة (اللاواعية احيانا في نشدان عدالة إجتماعية مسلوبة) ، إلى جادة الفعل العقلاني و الإجتماعي الموجه ،يختزل صيرورتها الجبارة ، الحائرة وسط الحطام المتوالي لمنظومة القيم الرأسمالية المتعفنة ،يختزلها كنزعة فلسفية متحررة عن نسقها التاريخي الراضي بالعقد الإجتماعي ،المنظم والمحدد لجدلية العلاقة بين الحاكم والمحكوم .

فاللبيرالية بعد كل ماحققته للفرد من حرية ،وبعد قرون عدة ،من إعطائه الحق له في ممارسة تلك الحرية وضمان تحققها ،سيما داخل النظم الرأسمالية الديمقراطية .تجد نفسها اليوم في مواجهة مباشرة مع إخفاقات تلك النظم ،نجدها اليوم في إنتفاضة إجتماعية وشعبية ، للإنقضاض على البنية المنخورة لتلك النظم ،المنهكة إقتصاديا وقيميا . في مهمة طموحة لتحويل إنجازاتها (اللبرالية ) المنحازة لحرية الفرد والجماعة إلى ممارسة بالقوة لإنتاج سلطة بديلة . وفقا لإنفعال الفرد في فهم تلك الحرية ،ووفقا لوهمه أيضا في تحويل ذلك المفهوم إلى رغبة جامحة لإدارة الدولة على إيقاع ذلك الإنفعال المتذبذب . فالليبرالية هنا استنفذت نفسها وفلسفتها في توليد حكما قيميا دون وجود صيغة بديلة تسندة وعقلا جمعيا يرشده .وهذا الفراغ يسوقها حتما لمواجهة الراديكالية الدينية ،بإنتقالها من الطور الكافل لحرية الفرد ( المتحرر من الأطر السائدة ) إلى طور ممارسة هلامية لتلك الحرية ،لإنتاج السلطة قسرا بصورة بدائيةو مؤقتة ، تمكنها وتخول لها القضاء على مبدأ الإحتكام لنظام ثابت لها ( للسلطة) . وبهذا الإنتاج المرتجل ، تكن ( الليبرالية ) تجاوزت مبادئ العقد الإجتماعي لهوبز وروسو وكانط وجون لوك وغيرهم ، لتغدو مطلقة الفعل والمطلب طليقة من أي رباط او علاقة محددة ومنظمة لحرية الممارسة المنتجة للسلطة الديمقراطية والإمتثال لمخرجاتها الملزمة .

إذا نحن نشهد تحولا مبهما لليبرالية بكفاحها المطرد للإنقضاض والإجهاز على (العقد الإجتماعي ) برمته ،وإصرارها في التبشير بعقد إجتماعي مغاير ،-وبحسب زعمها -فإنه سيولد في نهاية مطاف التغيير حتما من رحم ( نخب الوعي الحر، شرعية الفعل الثوري ، قيم وأخلاق العمل الإجتماعي المناوئ للسائد،النموذج الشخصي الممثل للنزاهة الحقة ) ،ولهذا فهي تمضي في محاصرة سلطات العقد الإجتماعي القائم (المهيمنة ) ،لإضعافه ،وتفكيك عناصر قوته ، بإعتباره قيدا لحرية منتصرة للتو ،وخذلانا متربصا يتحتم تجاوزه ودحر ضوابطه .

وهنا تخرج الراديكالية من مخبئها بكل اوجهها الدينية ( الإسلامية -المسيحية - اليهودية ) كمعادلا موضوعيا لإعلاء قيم المقدس ومعاقبة كل خروج عن (تابو) الأصل والفرع .

لتبدأ المواجهة التاريخية بين فلسفة نشأة قبل مايربو من خمسة قرون لتعتق الفرد من سلطة الكنيسة المستبد ، وتمنحه الحرية والحق في التفكير ،وفي إختيار نظام حياته بعيدا عن لاءاتها القسرية التي لاتقبل الجدل ،وبين فكر راديكالي متدين يحيل تلك الحرية المسهبة هراء وإسفافا مارقا .