الثلاثاء ، ٢٣ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١٢:٣١ مساءً

قريتي ,,,, أشواق وحنين

عباس القاضي
الأحد ، ٢٧ مايو ٢٠١٢ الساعة ٠٦:٥٠ مساءً
قريتي مسقط رأسي , ما زلت أذكر خطواتي الأولى فيها , كانت براءة الطفولة سمتٌ تختفي وراءها الآمال والآلام , لا اهتمامات تعكر صفو طفولتي , ولا طلبات تحد من انطلاقي في ألعابي , لم أذكر أنني طلبت مالا من أبي كما يفعل أطفال اليوم .

كانت القرية أسرتي ومجتمعي أدخل بيوتها دون استئذان , أحس وأنا أدخل البيت كأني دخلت قلوبهم وسكنتها .

كانت لياليها المقمرة مواسم للسهر واللعب والتَّحَلُّق حول كبار السن لسرد الحكايات الشعبية , التي كانت بمثابة قطرات الغيث لعقول قاحلة فتورق فيها هذه الحكايات وتزهر فتعطينا مفاهيم مختلفة كمغامرات الحب والكراهية والانتصار للحق ولو كان بالخوارق من السُّبٌل .

وكان لنا في هذه القصص مأوى ننسج فيها عالمنا الافتراضي ونحن نعيش ربيع طفولتنا .

كنا في ألعابنا يختلط الصغار مع الكبار والصبايا مع الصبيان في مكان واحد ولكل فئة له ألعابه واهتماماته وخصوصيته , وما زلت محتارا كيف كانت تلك البقعة المحدودة تحتوينا كلنا وتتسع لكل ألعابنا , وكان بيننا عهد غير مكتوب وميثاق غير مدون بعدم الشكوى للآباء والأمهات في حالة الاحتكاك أو الصدام على عكس الألعاب النهارية التي تكون عادة مسببة للخصومات بين الآباء في حالة الشكاوي تصل في كثير منها للاحتدام والاحتكام في الوقت نفسه الأطفال يلعبون معا.

وجاءت الدراسة وكانت في المعلامة ( الكُتَّاب ) ندرس فيها القرآن الكريم ومن خلالها يعرف المهتم من غيره , ومن خلال هذا الأسلوب في التعليم التلقائي البدائي استماعا وحفظا ومن ثم قراءة وكتابة تكون المرحلة الثانية في توسيع المدارك .

فأصدقاء هذه المرحلة محفورون في الذاكرة , عندما ترى الواحد منهم مع اختلاف الظروف والأوضاع والأحوال , تجد نفسك في حضرة ذلك الزمن الجميل البريء فيهتز وجدانك ومشاعرك .

أذكر أنني كنت شغوفا بحفظ القرآن , أحفظ بمجرد أن أكتب الدرس على اللوح الخشبي , فأذهب لأسمِّع فيتعدد دروسي في اليوم الواحد , حتى ضاق مني من كان يدرسني , وكان يضعني في مكان قَصِي بعيدا عن زملائي , لأنه ( رحمه الله ) كان يطوف عليهم في اليوم مرتين يضربهم بالعصا كلهم دون تحديد , وأذكر حينها كيف كانت زوجته ( رحمها الله ) تراقب هذه اللحظة فتأتي لتدفعه عنهم وكانت تتحمل بجسدها النحيل نصف الضرب وكانت تبكي وتصرخ على صيحات الأطفال التي لا تقوى على عصا الخيزران والتي كنت أسمع وقعها على أجسادهم , وكان بينهم أخوة لي أحدهم يكبرني بثلاث سنوات وآخر يصغرني بثلاث سنوات , حتى أنني أشتقت ومن باب حب الاستطلاع أن أخوض التجربة فتسللت ودخلت بينهم لأطعم تلك الضربات , جاء المعلم فشمر عن ساعديه , وهم بأول ضربة إلا أنه نظر إلى يساره فرأى مكاني شاغرا وصاح : أين عباس ؟ رد عليه أخي – الذي حاول أن يثنيني عن هذه الفكرة الشيطانية – هاهو فأخذني من يدي حتى كاد أن يسلخها , ورفعني عاليا ليلقي بي إلى الجهة الأخرى شفقة ورحمة بي فكانت أقسى من الضرب .

ذكريات تعاودني في زياراتي المتباعدة للقرية , فعند دخولي وفي خروجي انظر إلى مقبرتها التي يرقد فيها أبي الذي توفاه الله وأنا في السعودية , وأمي التي توفيت وأنا في صنعاء , وأخيرا أختي التي قطعت المسافة بأقل من ثلاث ساعات لألقي عليها النظرة الأخيرة , وأبحث لنفسي عن مرقد بالقرب منهم لأعود إليها في يوم ما .