الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٧:٣٨ مساءً

يا بُني اركب معنا ولا تكن مع الصحافيين..

موسى محمود الجمل
الخميس ، ٠١ يناير ١٩٧٠ الساعة ٠٣:٠٠ صباحاً
هذه ليست دعوة لليأس، ولا تحطيب على أطراف غابة خاوية على عروشها، ولا إعلان استقالة مبكر، بل خلاصة تجربة مازالت في بداياتها، تصارع في معترك يعج بالفوضى والغوغائيين.. وللحظات، تخيلت نفسي أباً لابن مفترض، باح لي ذات يوم أن أعجبته مهنتي، فأسديته بعض النصائح، ولكل من يقرأها حرية أن يضيف إليها من مخزونه..

يا بُني..

ستقابل صحافيين مسترزقين، تعرفهم، سيماهم في كتاباتهم وأحاديثهم إثر ابتذال الكلام وتعدد المواقف لدرجة التناقض. في أي موقف مقال، وفي كل مقال موقف. يبيعون واحداً للحبيب ويقبضون ثمن الآخر من الخصم.

ستفاجأ بصحافيين يصوغون أنفسهم في كتابات كثيرة بأسماء أكثر. تتعدد الأسماء، لكن الرداءة واحدة، لن تخطئها عيناك. هي أخلاقية مهنية. لا تختلق لنفسك المبررات كي تكتب باسم مستعار في مكانين أو ثلاثة، وأعلن عن نفسك وجهدك بعنوان واحد هو أنت، فالناس لا تصدق مزدوجي الوجوه، ولن يغنيك عن ذلك كله بضعة قروش تدسها في جيبك.

ستخالط صحافيين لا يخطئون فقط في نقل المعلومات، أو عدم اتقان صياغة النص وتجويده، بل وفي ذكر أسمائهم أيضاً، خاصة أولئك التلفزيونيين الجدد.. تجد "عثمان" مثلاً يقول عن نفسه "عصمان".. فلا تستغرب!!

احذرسُراق الأفكار، وما أكثرهم، والأكثر منهم مدعو معرفة. ولأننا في زمن الإنترنت، لا تقدس كل ما هو مكتوب، فما أكثر "المزابل" الإلكترونية و"المكبات" المعلوماتية.

لا تنبهر بالشاشة، من يُطلون عليها، الأسماء التي يحملونها، الأوصاف التي يُدبّجون بها، كثيرون ممن لا عقول لهم يتوارون خلف جاذبيتها: كلام كبير والمضمون فارغ، تلويح بالأيدي والكلام عادي، صراخ والحجة ضعيفة. احذر أن تلهيك الصورة عن التدقيق في مغزى النص ومعانيه.

لا تجعل التلفاز مصدراً أساسياً لمعلوماتك. وتجربتي المتواضعة تقول إن الكتاب هو الأغنى على الإطلاق منذ بدء الخلق. يبقى الناس تائهين - كعادتهم - قبل أن يهتدوا للأصل، فما بُعث فيهم رسُل إلا ومعهم كتب..

قوِ لغتك، قولاً وكتابة، زن الكلمات بميزان ذهب. الحقيقة تخدمها لغة قوية. ما من شيء يخذل الحقيقة إلا لغة ركيكة.

ستدعى إلى حفلات أكل وسهر وسمر تجمعك بمسؤولين، وبينما تتناول ما على موائدها، يُراد لك عدم تناولهم إلا بالتي هي أحسن. يجاملك البعض بهدية، إن أخذتها، وإن خجلاً، تُطرح من مهنيتك لاحقاً.

لكن، يا أبتي.. هل لا أجامل مطلقاً؟

جامل بحكمة، وانتقد بأدب، قدم النقد على المجاملة بابتسامة، هذا ما سيذكره الآخرون.. سيذكرونه بقوة.

لا تتحمس لعمل مدفوعاً بالحصول على جائزة، لا تلتفت كثيراً إلى المهرجات الكبيرة، تأكد أن أفضل الأعمال لا تصل إليها غالباً، الساعون وراءها ينشدون صيتاً ومالاً غالباً، يزولان مع نزولهم عن المنصة.

وليلكن بمعلومك، ليس للعمل الصحفي قواعد، في العالم العربي على الأقل، وهذه مصيبته. ستطرب في البداية لمفاهيم قد ترددها أنت: "أخلاقيات العمل الصحفي"، "ميثاق الشرف المهني"، "الموضوعية"، "المهنية"، "الحيادية"؛ لتكتشف لاحقاً أن لكل صحافي موضوعيته، ومهنيته، وحياديته. هي أشياء مثل المنشفة، تبتل وتجف، تثقل وتخف، بقدر ما يمكن أن تمتص من عقول وقلوب.

لا تفكر في تناول موضوع إلا إذا لمعت الفكرة بذهنك مثل البرق. لا تكتب إلا إذ جمعت كل مكونات الفكرة واختمرت تفاصيلها عندك. حين تشعر أن الفكرة تكاد تخنقك، أكتب بترتيب أو دونه، ثم اهجر النص قليلاً وعد إليه، سترى كم كانت أفكارك بحاجة إلى تصحيح.

والصحافيون يا بُني ثلاثة أنواع: مُحب للمهنة، مُحترِم للكلمة، دقيق يتحرى الصدق، يحاجج هادئاً بقوته الناعمة، ينصت أكثر مما يتحدث.

ثانٍ يلهث وراء سراب شهرة، غالباً ما تسمع ضجيج صوته، متأنق على الدوام، لكن سرعان ما تحرق سطحيته شمس أفكار الآخرين.

ثالث جيء به إلى الصحافة قبل أن يكتب حرفاً واحداً، متفاجأ، لم يدرك بعد أهو هو أم ليس هو؟ وقد كان معروفاً في أمم قد خلت أن الصحافي ليس مهندساً ولا طبيباً ولا هو

محاسب، فتكفيه شهادة جامعية ليكون صحفياً يشار إليه بالبنان.

ستصادف كَتبة يبيعون نصوصاً لصحافيين ذائعي صيت، ستكتشف الاثنين إن جمعك بهما حديث مباشر أو نقاش في الكواليس. ربما تقابل "الكتّيب"، وإن لم تسأله عن المبلغ الذي يتقاضاه يتبرع هو مفاخراً بالإعلان عن تكاليف الصفقة.

دائماً سيكون لديك معلومات أهم وأكثر من تلك التي تنشرها، سترى أن لكل تقرير تخوض غمار كتابته قصة ثرية ترافقك، في كل قصة شيء لك وآخر للناس.. لك تجربة الموضوع ومغامرته، وللناس المعلومة.

يا بُني..

أقول لك هذا وفي خاطري ألا أمنعك متعة خوض التجربة، فمهما تحدثوا لك عن الأشياء.. جَرّب، فالتجربة دائما شخصية.. شخصية جداً، لكني أسمع في الخلفية صوتاً يناديك: يا بُني اركب معنا ولا تكن مع الصحافيين..


* موسى محمود الجمل
دبي
28 مايو 2011