الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٩:٤٤ صباحاً

مٌحـــــاكمة مبــــارك

أحمد إبراهيم
الأحد ، ٠٣ يونيو ٢٠١٢ الساعة ٠٩:٤٠ صباحاً
"محاكمة مبارك" .. هذا العنوان بوجاز كلمه، وصغر حجمه وقلّة حروفه وُلد اليوم، فأعطى من مهده لشعب مصر الكثير من الأرقام، القاضي ومستشاريه لم يغمض لهم جفنٌ طوال 100 يوم حتى صباح اليوم بعصارة 49 جلسة، و 250 ساعات عمل، و 700 صفحات محاضر(بفتح الميم)، بما تجاوزت على 60 الف صفحة من صفحات الدعم والمرافقات والمذكرات، لأيام المرافعة بين 31/1/2012 الى 22/2/2012 شهرين متتالين، أى ستّين يوم أو اكثر اذاجمعنا شهرين متتاليين ايامهما بلياليهما دون توقف، دون استراحة، دون عطلات نهاية أسبوع، ودون طعام ونوم او إسترخاء كما جاء بالنص: (لم يغمض لنا جفنٌ.!)

"محاكمة مبارك" كانت تعني الكثير لشباب مصر بهتافات "لا أرانب ولا نمور في الميدان" .. انتم ياشباب مدعوون اليوم الى إعادة الحياة لإنسان مصر، الصور الخيالية المنسوجة بالشعارات لن تدم، فلن تنجلي إشراقة مصر جديدة بمجرد محاكمة مبارك او بموته وحياته.

يامصرُ نريدك وطنا بالإصالة والصدق، والمصري نريده مواطنا بالصدق والإصالة، وهما (الإصالة والصدق) كانا يُطردان من الأوطان، ويُطرد من يتمسك بهما بالميزان، فيفقد الطريد إصالته والصادق صدقه، لأنه بات يكره نفسه مواطنا بلا وطن، فلن ألومه على بكائه مقهورا: (ما لي بالصدق والإصالة في هذا الزمان.!)

في أمستردام إلتقيتُ بشابّين وخنجرهما المبرح لازال في ظهري، كل منهما على حدة وفي سكّتين مختلفتين، والجرح لم يندمل الى اليوم إت تذكرتهما انهما أدّعيا (أننا مصريان)..! ومصرُ بريئة منهما، والمصريون منهما بُراء من أمثالهما، الأول كان يجلس في دكان ببداية السكة، والثاني يقف قارع الطريق بنهايتها، الأول كان يتاجر بزوجته الهولندية (كما يدّعي)، أقبل نحوي باسما اول ما رآني دخلت السكة، صافحني، ثم عانقني بإبتسامة صفراء تسود ملامحه العربية التي كان يخفيها على كتفي من الواجهة وتكشفها مرآة الدكان من الخلف.!

همس في أذني اليسرى: "أهلا ياشيخ، يا الحاج وياباشا" .. يعني في ثانية واحدة صرت له شيخ وحجّي وباشا.! رغم اني لم اكن بالبشت أو بهندام البشوات، ولكني كنت ملتحيا بالكرفتّة والبدلة .. ثم أكمل همسته في اذني اليمنى "هى حُلوة، وسُخنة، ومتغلاش عليك بثولثومية دولار،وهي زوجتي..! طبعا كان زمن الدولار1995، وأخته (اليورو) لم تنجب بعد.

ما كرهتُ نفسي ان يشارك بني جلدتي هذا الخنزير، بأنه نظيري في الخلق من سلالة آدم وحوّاء، قدر ما كرهت كلماته عن نفسه "أنا مصري" .. لا والله مصر الحضارة والتاريخ ما يشرّفها امثالك، كان هذا صوتي من الداخل، ولساني أخرس وانا أتخطّى عنه بعيدا، دون أُن اشعره باني فهمت كلامه، او اني أفهم العربية، مشيت عنه كما يقال دون أن انبسّ ببنت شفه إلى نهاية السكة، فألتقيت هناك بآخر يخاطبني واقفا بصوت جسوري يقطع هدوء الليل: "أوامرك يا الحاجّ" .. لأخفف عن صدمتي الأولى، أقتربت منه ولاطفته (بسلامٌ عليكم، هل تعرف فندق فكتوريا في أي إتجاه يا اخي العرب..؟) .. إبتسامة هى الآخرى صفراء وساخرة علت وجه وهو يقول (إدفع عشرة دولارات لأخبرك إتجاهه..!) .. تسمّرت مكاني واقفا مقهورا على "سلام عربي إسلامي" ضيّعته في سكيك هولندا، ثم التفتُّ جنبه يُمنة ويُسرة من الشارع وإذا بلافتة (فندق فيكتوريا أمامي على مترين)..!

أهكذا المصريون يا الدنيا..؟، لا والله، انهم في ابراجهم على النيل بالقاهرة هم ذاتهم البسطاء المتواضعون الكرماء في أسوان وأسيوط وأرياف مصر، كتلةٌ من الجود والكرم والإخلاق والأدب هم المصريون، نريد من المحاكم المصرية، مهما رأفت او غلظت على الرئيس الأسبق، أن تحاكم دون رحمة ذلك المصري الذي يبيع الوطن بإسم الوطن ثم ينسب نفسه للوطن.

المصريون عباقرة، والعبقرية لا تكمُن في البذخ والثراء فقط، وبالأخص العبقرية المصرية كثيرا ما نبعت من العذاب والحرمان والشقاء.! و "محاكمة مبارك" على قلة حروفها، وأينما إتجهت أسهمها، علينا ان نحافظ على سمعة مصر وسلامة مصر وقوة مصر، ولا أعتقد أن ذلك صعبٌ تحقيقه على شعب الوحدوي المسالم المنتج البنّاء في ميادين العلم والعمل.

التركيز على مصر التعمير أخيرُ من التركيز على ميدان التحرير وشعارات التدمير، إن كنت تعلم انك لاتبني شيئا بدولار ودولارين مسروقين، فالعلم ذاته أكّد لك اليوم أنك لن تبني شيئا حتى بمليار ومليارين مسروقين، حافظ على كرامتك المصرية بإنسانية إنسانك، لترتقي عروشا إرتقاها العباقرة المصريون بالملاليم والقروش.

لا أعتقد طه حسين والعقاد (وهما ابسط مثالين عن العبقرية المصرية لكل العرب)، كانا يعرفان كيف يُنطق مليار جنيه او دولار و كيف يُكتب..! وبإفتراض انهما عادا للحياة وتمرّسا نطقه وكتابته وحيازته، لما رصدتهما الكاميرات خلف الزنزنات بتهمة المتعة والزواج المؤقت مع الستّ او الآنسة مليار دولار.!

لأنهما يبقيان بمحاكمة الذات بالذات، وبصوت القاضي من الداخل قبل الإبتدائية والإستئناف والتمييز، عش صعلوكا ومت عبقريا، أنت مصرىٌّ فأنت عظيم، ما أحوجك ربك لغير رغيف مصر ومياه النيل، مهما عليت وإستعليت لن تأكل أكثر من رغيفين متاحين لك بالجنية المصري فمالك بالدولار واليورو.؟!

بمحاكمة مبارك، قد تحاكم نفسك بنفسك في يومك الثاني، إن لم تكن حاكمتها فعلا في يومك الأول، فطوبى لك على يوميك، وطوبى لمصر بأبناء اليومين.