السبت ، ٢٠ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١٢:١٣ مساءً

"هولوكوست " ساحة الحرية بتعز !

حبيب العزي
الخميس ، ٠١ يناير ١٩٧٠ الساعة ٠٣:٠٠ صباحاً
من علامات الشقاء للإنسان في هذه الحياة الفانية هي سوء الخاتمة ، وقلة أو انعدام التوفيق ، وهذا ما نلمسه جلياً من خلال تصرفات الرؤساء المخلوعين وردود أفعالهم حيال الثورات العربية التي كسرت حاجز الخوف ، وانتفضت فجأة لتزلزل عروشهم وتدك معاقلهم .
أنا أزعم – بل أجزم وبيقين قاطع – أن أحداً من أولئكم الأشياء التي تطلق على نفسها "قيادات للأمة " في عالمنا العربي ، والتي وصلت في معظمها إلى كراسي الحكم على الأشلاء وعلى ظهور الدبابات ، ثم حافظت على بقائها طوال تلك الفترات بالانتخابات المزورة ، أزعم أن جميعها - وبلا استثناء – لا تعرف أبجديات الوطنية التي تتشدق بها ليل نهار ، ويكاد المرء منا يشك بأن دمائها عربية الأصل ، وأن المواطن العربي من أقصاه إلى أقصاه لم يعد يطيقها ، وأنه كان ينتظر لحظة الخلاص منها بفارغ الصبر .
أجزم كذلك .. بأنه لا يوجد شعب عربي واحد يحب هذا " الزعيم الأوحد " أو ذاك ، المتسلط والجاثم على صدره منذ عقود ، وواهم ذاك الزعيم العربي الذي ظن في لحظة ما - ولايزال - بأن شعبه يحبه ويفديه بالروح وبالدم ، سواء أكان ذاك الزعيم في الدول التي نجحت فيها الثورات أو التي لا زالت الثورات جارية فيها ، أو حتى تلك التي ترى بأنها ما تزال في مأمن من وصول ذاك المارد الثوري إليها حتى هذه اللحظة ، وفي مقدمتها تلك الأنظمة ذات الطابع الملكي ، التي يجب عليها ألا تتفاءل كثيراً ، وأن تقنع نفسها – راغبة أو مكرهة – بأن شعوبها لا تحبها هي أيضاً .
"علي صالح " هو واحد من تلك " الأشياء العربية " التي ظلت تحافظ على بقائها في سدة الحكم بقوة الحديد والنار ، وعبر الصناديق المزورة ، وشراء الذمم ، وعبر المراوغة والمكر السياسي ، التي ظل يتعاطى بها طوال فترة حكمه إلى أن أتت هذه الثورة المباركة لتُعريه وتفضحه على أعين الملأ بعد ما يقرب من أربعة أشهر من الاعتصامات السلمية التي قتلته غيضاً وفعلت به وبعرشه ما لم تفعله ألف قذيفة ومدفع ، والتي جعلته يتيقن "قسراً " بأن حتفه بات أكيداً ، وأنه الآن يعيش لحظاته الأخيرة قبل أن يلفظ أنفاسه ، فبدأ يتصرف بشكل هستيري ويحفر قبره بيده ، بدءً من رفضه التوقيع على المبادرة الخليجية التي جاءت بالأساس لإنقاذه ، ثم استهدافه بالقصف العنيف لمنزل الشيخ صادق الأحمر، وكذا تسليمه لمدينة زنجبار للمخربين والإرهابيين التابعين لقصره الجمهوري ، وكلها أوراق بائسة ومفضوحة باءت كلها بالفشل الذريع .
إن "الهولوكوست" الذي حدث ليلة وفجر الاثنين الماضي في ساحة الحرية بتعز هو دليل قاطع على نازية وفاشية هذا النظام المتعجرف والآيل للسقوط ، وعندما نصفه بالهولوكوست فذاك ليس من قبيل المبالغة ، لأن الحقيقة التي عشناها لحظة بلحظة على أرض الواقع ولمدة تجاوزت الـ 12 ساعة من المواجهة "الغير متكافئة " كانت مرعبة أكبر بكثير من تلك الصور التي تناقلتها وكالات الأنباء عن ذاك الهجوم البربري المخطط له سلفاً ، والذي استُخدمت فيه المصفحات وكل أنواع الآليات والأسلحة الثقيلة ووحدات مكثفة من الحرس الجمهوري والأمن المركزي الذين امتلأت بهم كل المداخل المؤدية إلى ساحة الحرية .
إن استهداف مدينة تعز بعينها بهذا الأسلوب النازي ، يعكس مدى الحقد الدفين الذي كان ولايزال يكنه "صالح " ونظامه لهذه المدينة الحالمة وأبناءها والتي كانت تقول دائماُ "لا" .. لا لنظام العصابات .. لا للتسلط والقمع .. لا للظلم .. لا لحكم الفرد أو الأسرة أو القبيلة ، ولقد فجرّت هذه المدينة شرارة الثورة في بداياتها ، وهي كانت دائماً عصية على صالح طوال فترة حكمه ، فكان لابد من أن يشفي غليله منها قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ، وكان لابد من تصفية كل حساباته القديمة معها ، فقرر القيام بهذا العقاب الجماعي لأبنائها ، متوهماً أنه بذلك سيكسر شوكتهم وسيخمد أصواتهم ولكن هيهات .. فتعز كانت ولا تزال عصية على العاصي ، وعتية على العاتي .
ربما توهم قلة من الشامتين - الذين وجدوا في تلك المحرقة مادة للتندر والسخرية بشباب الثورة - أن شباب ساحة الحرية كانوا عاجزين عن الرد ، وعن الدفاع عن ساحتهم بنفس تلك الأساليب الهمجية التي يمارسها النظام ، لكن الشباب كانوا على وعي كامل بأن معركتهم الحقيقية ليست مع القاتل أو البلطجي ، إنهم كانوا يدركون تماماً بأن قاتلهم قد احترق بنفس تلك النيران التي التهمت خيامهم ، لكنهم أرادو إيصال رسالة للعالم بأسره من قلب ساحة الحرية بتعز بأن شباب تلك الساحة كما غيرهم من الشباب في بقية ساحات الكرامة قد اختاروا طريق "القلم" بديلاً عن "البندقية" والكلمة " بديلاً عن "الرصاصة " ، لذلك تفاجئ فعلاً ذلك القاتل حينما لم يجد في تلك الخيام التي أحرقها سوى الأوراق والأقلام ، وسوى أكوام من الورد كانت قد تشكلت بها الأعلام ، وبقايا لوحات لأطفال كانت قد رسمت بعض ملامح مستقبلها ، و وشتها بألوان من براءتها ، ليأتي – بعد ذلك - قاتل الأحلام ، فيحرقها ، ويحيل بياض اللون فيها سواداً قاتماً ..
ولا عجباً .. فالسارق بطبعه لا يحب بياض الضوء لأنه فاضحه ، هذا السارق العادي .. فكيف بمن يسرق الأوطان .