الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٩:٢٣ مساءً

ولا تركنوا إلى أمريكا

هاني غيلان
الثلاثاء ، ١٧ يوليو ٢٠١٢ الساعة ٠٤:٥٨ مساءً
بعد التأكيدات الأخيرة لوزيرة الخارجية الأمريكية بأنها تقف مع (التحول الديموقراطي في مصر والمنطقة) أثار إستغرابي ما كتبه أحد الإسلاميين المتحمسين في تويتر حيث قال بالحرف الواحد: (إن كانت الثورات العربية مؤامرة أمريكية فمرحبا بالـ CIA وإن كانت صنيعة إسرائيلية فأنا أول عميل للموساد)!!

والحقيقة أن التحول الملحوظ في السياسة الأمريكية تجاه (الأحزاب الإسلامية) لم يأت من فراغ وإنما جاء بعد بعد نقاشات مطولة ودراسات مكثفة أجريت في مراكز أبحاث إستراتيجية متخصصة، بعد تلقي الإدارة الأمريكية العديد من الضمانات والوعود و(رسائل التطمين) من بعض القيادات الإسلامية المنفتحة في أكثر من محفل، فـ (الإدارة الأمريكية) التي أضطرت للإعلان الضمني عن هزيمتها العسكرية أمام القاعدة وطالبان وبدء (الإنسحاب المرحلي) من أفغانستان، ثم من العراق مع نهاية العام الحالي، بعد أن وجدت نفسها تمشي منفردة بين كثبان رملية متحركة، تصارع طواحين الهواء في كهوف ومغارات (تورابورا)، لتكتشف أنها وقعت ضحية حلفاء غير جادين في حربها الغير مشروعة واللامبررة على ما سمي بـ (الإرهاب).. وضحية أنظمة عربية متخاذلة متلاعبة استغلت شماعة القاعدة طويلاً كمبرر لبقاءها وإستمرارها في سياسات التوريث والإقصاء والإفساد الممنهج وتكميم الأفواه وإضطهاد الأصوات المعارضة.

عندها فقط فطنت (الإدارة الأمريكية) للفخ الذي نصب لها بإحكام -ولو بعد حين- فرأت فيما يبدو تبديل (قواعد اللعبة) جذريا وتغيير المشهد برمته لينتج (الشرق الأوسط الجديد) عن (ولادة قيصرية) لأجنة مشوهة مشلولة الأركان تمثلها حكومات هشة غير مستقرة، برأسين متصارعين متنافسين -أحدهما إسلامي والآخر ليبرالي- بحيث تبقى الأذرع العسكرية دائماً بيد عناصر طيعة تابعة لها، ويظل (الحبل السري) بيد الطبيب المناوب الأمريكي.

وكبادرة حسن نية وعربون صداقة فإن أمريكا التي أصبحت بقدرة قادر (صديقة للثورات العربية) تنتظر الان بشغف من الحكومات -أبو رأسين- (رد الجميل) والمضي قدما في ما فشلت فيه أو تقاعست عنه سابقاتها من الأنظمة المنهارة –أبو رأس واحد- لنظل نحن الشعوب ندفع ثمن الفاتورة من أمننا ومن دمائنا، ولنظل نعاني من التبعية و(الهيمنة الإمبريالية) وكأن غطرستها وعنجهيتها الفجة أمرا مكتوبا علينا وقدرا لا مناص منه، وليظل المطلب الرئيس و(الإملاء الأول) الذي يهم (السفير الأمريكي) ويشغل باله في هذه المرحلة كما في المراحل السابقة هو ملاحقة خفافيش القاعدة وتجفيف منابع الإرهاب بالمنظور الأمريكي.

أما (القاعدة) التي أتعبت أمريكا وشغلت العالم أجمع، فقد أصبحت اليوم فعلاً (عصية عن الكسر)، لا تكاد تختفي في بقعة حتى تظهر في عشرة بقاع أخرى، ولا يذهب أحد قادتها حتى يولد بدل منه عشرة آخرون.. (القاعدة) التي أضحت بلا قواعد أخلاقية تحكمها ولا منطلقات فكرية يمكن تفهمها ودراستها، ولا منهج واضح يمكن تتبعه والتعامل معها بمقتضاه، ولا جسد أو إطار معين يمكن إحتوائه وترويضه أو التفاوض معه للوصول لحل ما..
ربما إقتنع الغرب مؤخراً أنه لا مفر من القبول بتيار (الإسلام السياسي) والإعتراف به ولو مؤقتا، فهو الأقرب نسبيا إلى فكر القاعدة والأقدر على التواصل مع قياداتها وأنصارها وتحمل مسئولية هذا الملف الشائك، وهو أيضا أكثر تنظيما وحضورا في الشارع الان، وربما أن (التجربة التركية) المتميزة على ما فيها من (إسلمة الشعار وعلمنة الممارسة)، وكذا تجربة (حركة حماس) الغير متهورة والموفقة إلى حد ما في إدارة (قطاع غزة) بلا عنتريات قد أسهمتا في ذلك.. ناهيك عن رسائل الطمأنة و(الغزل العفيف) التي اعتادت بعض القيادات الإسلامية في مصر على بعثها للإدارة الأمريكية بين الفينة والأخرى أمثال (أبو الفتوح) و(العريان) الذان أكدا في أكثر من مناسبة أن (الإخوان المسلمين) لن يقفوا حجر عثرة أمام (المصالح لالأمريكية) كدولة عظمى لها مكانتها.

والحق يقال، أن ما تعرضت له بعض حركات الإسلام السياسي في فترات سابقة من إنتهاكات وتعسف وسجن وتعذيب ومضايقة، قد أدى ببعض جناحاتها للغلو والتطرف والإنغلاق والخروج على المجتمع وتكفيره والجنوح للعمل السري المسلح كردود أفعال لا نبررها، بقدر ما نأمل تجاوزها بسقوط (الأنظمة المستبدة) وزوالها وتوفير (المناخ الديموقراطي )الملائم لتصحيح مسار الحياة السياسية والثقافية ولتبادل السلطة سلميا عبر إنتخابات سليمة، فإن ذلك كله لا بد أن يخلق بيئة خصبة للحوار وتلاقح الأفكار على أرضية ثابتة من القبول بالآخر والإنفتاح عليه، يؤدي بالمحصلة لمد (جسور الثقة والشراكة) بين الفرقاء والتلاشي التدريجي للكثير من تراكمات الماضي البغيض وإرهاصاته.

ومن المفارقات العجيبة لسياسة (حرق المراحل) التي تجيدها الإدارة الأمريكية، أن أمريكا التي صنعت القاعدة وسلحتها ودربتها أثناء قتال السوفيات في أفغانستان، كانت أول من إنقلب عليها ثم إكتوى بنارها، لتشغل العالم كله وتحرق الأخضر واليابس في حرب إنتقامية ضروس لامتناهية ولا حدود فيها ولا هوادة، ليمتد جنون (الأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة) ويمتد ليشمل الجميع!!

أمريكا التي دعمت الأنظمة العربية وساندت حكامها -الذين كانوا هم أيضا صنيعة أمريكية بإمتياز- فوقفت معهم طوال عقود سابقة، ثم لم تستحي أو تخجل من نفسها وهي تتحول مئة وثمانين درجة لترمي بهم كـ (قفاز قديم) وتغدو بين عشية وضحاها (صديقة الثورات العربية) ونصيرة الشعوب المقهورة في كفاحها المستميت من أجل الحرية والكرامة!!

أمريكا التي ساندت (صدام حسين) طويلا أثناء حربه مع إيران هي التي حاصرت وجوعت ودمرت دولة العراق خلال (حربي الخليج) باحثة عن (أسلحة الدمار الشامل) الغير موجودة أصلاً إلا في (المخيلة الهوليودية)، وهي نفسها التي عادت من جديد لتبنيه وتعمره -بمليارات الدولارات- عبر شركاتها العملاقة، لتقتل الشعب العراقي الصابر وتمشي في جنازته، وتمتص دمه الطاهر حتى آخر قطرة!!

أمريكا التي تضخ الأموال المشبوهة وتدفع اليوم بسخاء لمنظمات (المجتمع المدني) و(الدفاع عن حقوق الإنسان) في مصر واليمن وليبيا وإيران وتونس لم تحاسب جنودها يوما على جرائمهم البشعة بحق الأبرياء في فيتنام وأفغانستان والعراق والصومال ولم تكلف نفسها عناء مراجعة أنظمتها ومراعاة الحقوق المنتهكة للمعتقلين في سجون إسرائيل وأبو غريب وغوانتنامو!!

أمريكا التي تطنب أسماعنا كل حين بالحديث عن (شرق أوسط) خالي من (أسلحة الدمار الشامل)، وهي تغض الطرف كلياً عن البرنامج النووي التسليحي لإسرائيل، ثم تأتي اليوم لتستثمر (التنوع الطائفي) في بلداننا أبشع إستثمار، مشجعة على التناحر المذهبي في سوريا ولبنان والعراق واليمن، شاحنة الأجواء في الخليج، ومذكية نيران الفتنة المقيتة في الوقت الذي تعقد فيه صفقات الأسلحة بالمليارات هنا وهناك!!
وهكذا.. حيثما وجدت الأزمات والملمات وعلا الصراخ والعويل فثمة أمريكي ساقط خبيث يقف وراء الستار يسفه أحلامنا ويعبث بأمننا وإستقرارنا ثم يضحك حتى الثمالة وهو يغني ويرقص طرباً فوق جراحاتنا المتقيحة.