الخميس ، ١٨ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١٠:١٣ مساءً

شذرات من ذكرات ،، أمي

عباس القاضي
الجمعة ، ٠٣ أغسطس ٢٠١٢ الساعة ٠٨:٤٠ مساءً
تنحدر أمي من أسرة موغلة في الزراعة ، فِلاَحَةٌ ورعي ، حراثة وحلب ماشية ، لا اهتمام لهم غير البذر والحصاد وخدمة الأرض .

تزوجت أبي بناءاً على وصية أبيها لجدي ، برعاية الأسرة خوفا عليها من القريب قبل البعيد حيث كان جدي لأمي ليس له سوى ولد واحد هو أصغر أبنائه .

وعندما وصلت إلى بيت جدي لأبي وجدت فرقا كبيرا ، معيشة وتفكيرا وأسلوب حياة .

كانت البيت بمثابة مجمع فيه أبي وأعمامي ، كما كانت مأوى لطلاب العلم وابن السبيل والأيتام ، كذلك لجدي أصدقاء من الشخصيات الكبيرة من أقصى مديرة ماوية شرقا حتى الحجرية غربا ، ومن الراهدة جنوبا حتى القاعدة شمالا - لهم في بيت جدي موضع قدم لا يخلو الشهر منهم .

وكانت أمي ترى في خدمة بيت جدي أمرا تعبديا أكثر مما هو عملا روتينيا - أو هكذا بدا لها الأمر – وسط حذلقة ومكر نساء أعمامي .

كانت تقوم قبل الفجر لتطحن في الرَّحَى ما يقرب من قدح طعام يوميا ، وهي تقوم بهذا العمل تستعين على مشقته بترديد ما تحفظ من القرآن الكريم في ذلك البيت العامر بالإيمان .

وكانت تقوم بالإشراف على مزارع جدي كونها الأكثر تأهيلا لهذه المهمة

وعندما اشتد عود أبي وخرج إلى بيت مستقل ،،، وأنا أخطو بأقدامي الصغيرة خطواتي الأولى ، كنت ألاحظ شغفها بالقرآن ، وهي الأمية ، وحرصها لدعوة نساء القرية للصلاة ، فقد كانت بيتنا لا تخلو يوما من نساء يتعلمن الصلاة ويتحفظن ما تيسر من القرآن الكريم على يد أمي ، وكان من المغرب إلى العشاء بيتنا على صغره كأنه مسجد ، وكانت – رحمها الله – تسد الأعذار بإمكانيتها البسيطة بشراء ثياب للصلاة التي كانت كثياب الرجال .

كانت أمي حنونة ، عاطفية إلى درجة لا أستطيع أن أسقطه على بشر بعدها ،،، فقد كانت السماء تمطر والناس فرحين مستبشرين ،،،وأمي تبكي وتصرخ وتولول خوفا على الرعاة في الجبال والرعية في الوديان ،،كيف سيكون حالهم إذا لم يجدوا كنانا من المطر ،،فقد كنت أتعلق بيدها وأنا صغير أقول لها : ها نحن أبناؤك بجانبك يا أمي ، فتنظر إلى وهي تهزني كالميدالية بيدها ،، أنتم أبنائي فقط ؟ أبناء القرية كلهم أبنائي ، وكان هذا شعورها حتى لقت ربها .

وكانت مثل أبي الذي أخذ صفة الجماهيرية من أبيه وتطبعت عليها أمي ،، يحبون أن يأكل الضيف والغريب طعامهم ، فكانت بيتنا لا تخلو من ضيف زائر أو غريب عابر .

كنا صغارا فأخذتني وأخواي أحمد وعبدالله - وكنت وسطا بينهما – ذات صباح ومرت بنا إلى دكان القرية ، واشترت لنا تمرا وسط دهشتنا لهذا التصرف المفاجئ ، وأمسكت بأيدينا إلى بيت معروف صاحبها .

الباب كان مفتوحا ، فقد كان مستعدا للقيام بمهمته التي أفزعتنا منذ أن وقع نظرنا إلى ذلك الموقد ، وقضيب الحديد المحمر والنار المضطرمة فيه ، فقد كان الاتفاق دون علمنا على عملية " الكَي " سيضع هذا القضيب على على الفقرة السابعة من العمود الفقري ، قام هذا الرجل بمساعدة زوجته وابنته باللازم وكان يد أحدهم بالرقبة من الخلف والآخر أسفل الظهر ليحصوا الفقرات ،، خمسة ، ستة ، سبعة طزززز ، أحسست أنه سيخرج من بطني ، وهكذا فعل بأخواي ، وأنا أبكي وأقول : والله إنني داري من حين اشتريت لنا التمر ، وعقَّب أحمد يا أماه لماذا فعلت بنا هكذا ؟ قالت حتى لا يضرب أحدكم أخاه في ظهره ،،،وأردفت : يا عيالي ، ضربة الظهر تسبب " الرَّجَّه " وفعلا لم تزر كفوفنا ظهورنا من ذلك اليوم بسبب الجراح ، ولكن عبدالله الذي كان أكثرنا بكاءا وصياحا قال لها بحنق : تبكين على الرعاة والرعية ، وتحرقينا بالنار ؟ ! قالت باقتضاب : خوفا وشفقة عليكم ،،، هيا سأشتري لكم حلوى ،،، صحت بصوت المفزوع : لا نريد حلوى ،،، يكفينا التمر .

كانت أمي تحب المساكين ،، حتى الحيوانات يجدون لديها ما يأكلون .

كانت قطعة من لُجَين صاغتها يد الله أو هكذا كانت تبدو لي .

وذات صباح هاتفني أخي الأكبر يقول لي : أمي ،، أمك ،، تحتضر ، تسارعت أنفاسي ، جف الريق في فمي ، لم تستطع قدماي على حملي .

بعد دقائق اتصل قائلا : أمك ،،أمي ،، ماتت ، شعرت حينها إنني مت أنا لا هي ،،، رحمك الله يا أمي ،،،أم المساكين .